رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الطيب والشرس والقبيح


وقف متحدثًا أمام حشد ضخم من الأنصار والمتعاطفين، المُتحمسين إلى درجة تبلغ حد الهوس، ونظر إليهم من علٍ ثم بدأ يلقى كلمته، رائحًا غاديًا، مُشيرًا بإشارات تشى بالزهو والانتشاء.
تحدَّث بغرور وتعاظم عما فعلته دولته، التى لا تكاد تبين من على الخريطة، وصعد بـ«إنجازاتها» إلى عنان السماء، وكان مما قاله: «اليوم أريد أن أسألكم: هل تذكرون الفيلم الرائع لـ(كلينت أستوود)، (الطيب والشرس والقبيح)؟، أود الحديث عن (الجيِّد والسيئ والجميل)».
الجيِّد، هو جميع الأشياء الجيِّدة، التى تفعلها دولته، والتى يزعم- أنها تجعل العالم مكان أفضل، والسيئ هو جميع الأشياء السيئة التى تحاول القوى الحاقدة القيام بها ضد هذه الدولة، وضد العالم، مُحددًا دولة أخرى بالاسم، ثم بدأ يسرد فى تعاجب ما فعلته دولته، وما وصلت إليه من رفعة وعلو فى القدر والمكانة، وخلفه شاشة إلكترونية ضخمة تعرض صورًا لما يتحدث عنه، فهى، يقول، لم تكن أقوى عسكريًا أبدًا، وبهذه القوة الهائلة كما هى عليه الآن.
 هذه الطائرة المُقاتلة التى تملكها، (إف ٣٥)، هى الأقوى فى العالم، وهذه «القبة الحديدية»، والعديد من الأنظمة التى طورناها بمساعدة الولايات المتحدة: شكرًا لأمريكا، وبدأ يُحيى «رؤساء أمريكا جميعًا»، والكونجرس والجمهوريين والديمقراطيين، وإيباك (المنظمة اليهودية الأمريكية)، لما فعلوه من أجل دولته، ويشكر جيش دولته «الذى لا مثيل له فى العالم، والمدعوم من قِبل مخابرات لا مثيل لها فى الكون»!، مُدَّعِيًا أنها أحبطت فى السنوات المنقضية العشرات من الهجمات الإرهابية الكبرى، حول العالم، من بينها حماية هذه الطائرة، التى تبدو على الشاشة، وعليها شعار دولة الإمارات، والمتجهة من أستراليا للخليج (الفارسى) من خطة إيرانية لتفجيرها فى الجو، فقوات دولته تحمى الأرواح البريئة حول العالم، ثم استدعى بعض المحاربين القدماء من بنى جلدته، لكى يحييهم الجمع بحرارة، مُعَدِّدًَا مناقب جيش دولته ومميزاته، من بينها ضم النساء والمثليين، وممثلين لجميع الأعراق والأديان.
ثم ينتقل المتحدث إلى «الأخبار الجيِّدة»، التى لا تقف عند مدى قوة جيش دولته وحسب، وإنما تصل إلى بناء اقتصاد «قوى بشكلٍ هائل»، «بإطلاق شرارة العبقرية (المزعومة) المُتَرَسِّخة فى شعبنا!»، للاختراع وريادة الأعمال، فالثروة الحقيقية فى الاختراعات: جوجل، مايكروسوفت، أمازون، فيسبوك، والمئات من شركات التكنولوجيا المتقدمة، جميعها لديها مراكز أبحاث رئيسية فى دولته، لملاحقة وقيادة التحول الهائل، الحادث بفعل «التزاوج» بين البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعى، الأمر الذى يترتب عليه إحداث ثورة فى الصناعات القديمة، وخلق صناعات جديدة بالكامل، وهى صناعات كانت دولته متقدمة فيها دائمًا بصورة «مذهلة!».
ويشير المتحدث إلى الطفرة التى أحدثتها دولته فى تكنولوجيا الزراعة باستحداث «الزراعة الدقيقة»، عن طريق استخدام الطائرات من دون طيَّار، المُتصلة بقاعدة بيانات كبيرة، تُحلق فوق الحقول المزروعة، المزودة بمستشعرات حسّاسة، يتم عبرها تحديد حاجة المزروعات من الأسمدة والمياه، ومدّ «كل نبتة على حدة» باحتياجاتها، عن طريق أنظمة الرى بالتنقيط، وهو ما أحدث طفرة ضخمة غير مسبوقة فى الإنتاج الزراعى، ثم استعرض تَقَدُّم دولته فى إعادة تدوير مياه الصرف، وحل مشكلات الزراعة، الأمر الذى فتح أمامهم المجال لإحداث اختراق كبير فى إفريقيا والهند وأمريكا اللاتينية وغيرها من المناطق، وبحيث أصبح اللون الأزرق، لون علم دولته، يصبغ الأغلبية العظمى من مواقع الدول الموجودة على الخريطة، وأصبح بمقدرة دولته أن تعزل من كانوا يحاولون عزلها فى الماضى.
هذا باختصار أهم ما تضمنته كلمة «بنيامين نتنياهو»، رئيس الوزراء الصهيونى، والموجودة على مواقع التواصل الاجتماعى، فى اجتماع لمنظمة «إيباك» الصهيونية المتطرفة بأمريكا، وبصرف النظر عن الأكاذيب المبثوثة فى ثناياها، والادعاءات والتباهى، والتغزُّل فى قوة الجيش الإسرائيلى (الذى لا يُقهر) وقدراته الأسطورية، والتى عرَّاها، المقاتل المصرى والعربى ووضعا لها حدًّا فى حرب أكتوبر ١٩٧٣، وكذلك بغض النظر عن ادعاءاته المكشوفة بمحاربة الإرهاب، الذى هو ودولته وجيشها من أهم مصادره وأسباب وجوده، وعن مزاعم مساعدة دول إفريقيا والعالم- فهى فى جوهرها عمليات «بروباجندا» لا تنطلى علينا، ولا على من يعرف تاريخ وإجرام الحركة الصهيونية ودولتها؛ بغض النظر عن كل ذلك، فلا يجب أن نغفل عما تضمنه حديث «نتنياهو» من إشارات مُهمة لطفرة التقدم العلمى والتقنى فى الدولة الصهيونية، وهو ما عَكَفْتُ لسنوات على محاولة تتبعه، ونجم عن هذه المهمة كتاب بعنوان «العلم والسيطرة: كيف استخدمت إسرائيل تقدمها العلمى والتكنولوجى لبسط هيمنتها على منطقتنا؟» (موجود لمن يود مطالعته والاستفادة مجّانًا من مادته على شبكة الإنترنت)، وقد صدر منذ بضع سنوات عن «المجلس الأعلى للثقافة»، مُتضمنًا معلومات مهمة، ورؤى لاستراتيجيات الدولة الصهيونية نحو امتلاك مفاتيح التطور التكنولوجى المتقدم، انطلاقًا من طموح لا يهدأ لاحتلال موقع الصدارة فى المنطقة، ورغبة محمومة لا تبرد للهيمنة على مُقدراتها، بالاعتماد على التفوق العلمى والتقنى. أدعو المفكرين والمثقفين ورجال الحكم والسياسة، إلى إيلاء قضية الأوضاع العلمية، وليس التعليمية وحسب، وحالة البحث العلمى، فى بلادنا، ما تتطلبه بالفعل من اهتمامٍ بالغ، ذلك أنها بالفعل الفيصل بين الحياة والموت.. بين الوجود والعدم.. بين البقاء والفناء.