رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حقوق القنصل الفرنسى المنتحر



الخارجية الفرنسية، بحسب موقعها الإلكترونى الرسمى، تحرص على مكافحة انتهاكات حقوق الإنسان فى أى مكان، ونتمنى أن تحرص الخارجية المصرية على ذلك أيضًا، وتولى قدرًا من الاهتمام، أو تعرب عن قلقها، إزاء الممارسات القمعية، التى تعرض لها دونيس فرنسوا، القنصل الفرنسى فى مدينة طنجة المغربية، التى دفعته إلى الانتحار، لو استبعدنا فرضية نحره.
جثة القنصل الفرنسى وجدوها داخل غرفته بمقر القنصلية فى السابعة صباح الخميس الماضى، ودون تقديم أى تفاصيل حول أسباب الوفاة وطريقتها ودوافعها، قامت السفارة الفرنسية لدى المغرب، فى حسابها على «تويتر»، بتقديم أحر التعازى لعائلته وأقربائه وأصدقائه والعاملين معه، وشكرت السفارة جميع من عبروا عن تضامنهم. وإلى الآن لم تصدر الخارجية الفرنسية بيانًا، ولم ينشر موقعها الرسمى حرفًا عن الحادث!
التحق دونيس فرنسوا، ٥٥ سنة، بوزارة خارجية بلاده سنة ١٩٩٢، وعمل رئيسًا لمنطقة آسيا وأوقيانوسيا بوكالة التعليم الفرنسى بالخارج حتى سنة ١٩٩٥، وشغل منصب نائب القنصل العام فى مونتريال بين عامى ٢٠٠٤ و٢٠٠٩، ثم رئيس مكتب السياسات القانونية وإدارة الموارد البشرية منذ ٢٠١٣ إلى ٢٠١٦، ومنتصف سبتمبر الماضى، تم تعيينه على رأس القنصلية الفرنسية بطنجة، خلفًا للقنصل تيرى فالات.
الدبلوماسى الفرنسى، كان يعيش بمفرده داخل بيته وسط القنصلية، وكان منعزلًا وقليل الكلام، بعكس سلفه تيرى فالات، الذى أقام علاقات اجتماعية واسعة فى المدينة الساحلية، وبينما ذكرت وسائل إعلام مغربية ودولية عديدة أنه شنق نفسه، أكد موقع «مباشر» المحلى، أنه لم يكن مشنوقًا، بل وجدوه ساقطًا على سلالم مقر إقامته والحبل فى يديه، غير أن كل المصادر أجمعت على أنه توجه قبل انتحاره بأسبوع إلى الرباط والتقى هيلين لوجال، سفيرة فرنسا فى المغرب، وقدم لها طلبًا لإعفائه من مهامه.
حقوق الإنسان، حقوق عالمية وغير قابلة للتجزئة، وتُمثّل جزءًا من القيم الأساسية، المنصوص عليها فى ديباجة الدستور الفرنسى، وبما أن القنصل المنتحر إنسان، فطبيعى أن يتمتع، داخل بلاده وخارجها، بكل الحقوق، التى تكفلها المواثيق الدولية، كالمادة ١٣ من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان التى تكفل لكل فرد حقّ مغادرة أى بلد، بما فى ذلك بلده، وفى العودة إلى بلده، والمادة ٢٣ التى تكفل حقّه فى العمل، وفى حرية اختيار عمله، وفى شروط عمل عادلة ومُرضية. وقبل هذه وتلك، المادة ٣ التى تكفل الحق فى الحياة، والحقوق الثلاثة انتهكتها الخارجية الفرنسية حين لم تستجب لطلب إعفائه من مهامه.
لن يكون مفاجئًا، لو اتضح أن انتحار القنصل الفرنسى، أو نحره، له أسباب مخابراتية، ولعلك تعرف أن دبلوماسيين كثيرين عملوا جواسيس، أو أشرفوا على شبكات تجسس وقاموا بنقل أسلحة وتكوين ميليشيات إرهابية، وأداروا شبكات سرية لغسل الأموال، وحدث فى مارس ٢٠١٨ أن قامت حكومات أكثر من ٢٠ دولة، من بينها فرنسا، بطرد أكثر من ١٥٠ دبلوماسيًا روسيًا، بزعم أنهم جواسيس تحت غطاء دبلوماسى، وهو ما ردت عليه موسكو بالمثل وطردت عددًا مماثلًا من الدبلوماسيين، من بينهم ٤ سفراء لفرنسا.
عن رينيه جاليمار، السفير الفرنسى لدى بكين، الذى قامت المخابرات الصينية بتجنيده، سنة ١٩٦٤، قدمت السينما الأمريكية فيلم «M. Butterfly»، سنة ١٩٩٣. وألقت السلطات الجزائرية، فى يوليو ٢٠٠٩، القبض على شبكة تجسّس يديرها نائب القنصل الفرنسى فى عنابة، وسبق أن نقل موقع «ميديا بارت»، فى فبراير ٢٠١٩، عن مصدر رسمى فى قصر الإليزيه أن الحكومة الفرنسية على اتصال، عبر سفارتها فى القاهرة، بنشطاء مصريين يقومون بما زعم ذلك المصدر أنه «عمل ممتاز»، وربما لأسباب ذات صلة، استنكرت الخارجية الفرنسية، فى نوفمبر الماضى، لقاء لويجى دى مايو، وزير الخارجية الإيطالى، بنشطاء فرنسيين، ووصفته بأنه «استفزاز غير مقبول»، واستدعت سفيرها فى روما!
فى سياق تنافسها التقليدى مع بريطانيا، وإيطاليا، وبهدف مواجهة التوسع الصينى القوى، والروسى الأقل قوة، وحرصًا على استمرار تدفق الموارد من مستعمراتها القديمة، أولت فرنسا اهتمامًا خاصًا بدول شمال وغرب ووسط إفريقيا، وأنشأت شبكة واسعة من العملاء، ضمت رجال أعمال ونشطاء سياسيين وحقوقيين، غير أن نشاط تلك الشبكة تقاطع مع أنشطة شبكات الدول المنافسة، وقابله تزايد الأنشطة التركية القطرية التخريبية داخل فرنسا ومناطق نفوذها.
غالبًا، ستكون فرنسا هى الخاسر الأكبر فى هذا الصراع، بعد تراجعها الاقتصادى، الذى فاقمه فشل حكومة ماكرون فى التعامل مع وباء «كورونا المستجد»، إضافة إلى العديد من التحديات، التى تواجهها فى الداخل، ولعبها غير النظيف فى الخارج، الذى قد يكون أحد تبعاته انتحار، أو نحر، قنصلها فى طنجة، الذى نرى أن أبسط حقوقه، كإنسان، أن تعلن الخارجية الفرنسية عن الأسباب التى دفعته إلى الانتحار أو تسببت فى نحره.