رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الانتخابات الأمريكية والسياسة الخارجية



علمتنا الأحداث وعلمنا التاريخ أنه من قلب الفوضى تنشأ بوادر الاستقرار، وأنه عند نشأة فراغ إقليمى فى منطقة حيوية من مناطق العالم «كالشرق الأوسط مثلًا»، فإن هذا الفراغ لا يستمر طويلًا وسرعان ما تنجذب إلى الإقليم دولة أو عدة دول لتملأ الفراغ وتحل محل الدولة المنسحبة.
وصف العديد من باحثى النظام الدولى حكم ترامب للولايات المتحدة الأمريكية بأنه «مرحلة سيولة دولية»، نتيجة سياسات ترامب التى اعتمدت على عدم الالتزام بالمعاهدات الدولية والتخفف من الالتزامات الدولية نحو العالم، ما أحدث شرخًا وصدعًا فى العلاقات الدولية وأثر على معظم دول العالم.
وبعد إعلان فوز جو بايدن فى انتخابات الرئاسة الأمريكية، ينتظر المجتمع الدولى أن يفى بتعهداته الانتخابية بعودة الولايات المتحدة الأمريكية للانضمام مرة أخرى للاتفاقيات والمعاهدات الدولية التى انسحبت منها فى عهد الرئيس دونالد ترامب، الذى طبَّق سياسة «أمريكا أولًا» بالانسحاب الممنهج من هذه الاتفاقيات التى بدأت بالانسحاب من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادى التى تمثل ٤٠٪ من الاقتصاد العالمى بقيمة ١١ تريليون دولار، وبعدها الانسحاب من اتفاقية تغير المناخ التى وقعتها أمريكا عام ٢٠١٥، تلاها الانسحاب من منظمة اليونسكو، بتبرير أن المنظمة منحازة للفلسطينيين على حساب إسرائيل، واحتجاجًا على قرار منح فلسطين عضوية كاملة بالمنظمة، وبعدها انسحبت أمريكا فى مايو ٢٠١٨ من الاتفاق النووى الأمريكى الذى تم إبرامه مع إيران و٥ دول أخرى «روسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والصين»، بزعم انتهاك إيران الاتفاق النووى، وذلك على الرغم من تأكيد وكالة الطاقة الذرية حينذاك بالتزام إيران ببنود الاتفاق النووى، كما انسحبت أمريكا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
تماشيًا مع سياسة أمريكا المدافعة عن أمن ومصالح الكيان الصهيونى، انسحبت من البروتوكول الاختيارى بشأن حل النزاعات الملحق بمعاهدة فيينا، وذلك بعد أن لجأت فلسطين إلى محكمة العدل الدولية لتقديم شكوى ضد الولايات المتحدة، بشأن اعتراف الأخيرة بالقدس عاصمة لإسرائيل.
ومن أبرز الانسحابات معاهدة القوى النووية المتوسطة فى فبراير ٢٠١٩ التى أبرمتها أمريكا مع الاتحاد السوفيتى عام ١٩٨٧، وتحظر المعاهدة وضع صواريخ متوسطة وقصيرة المدى بين ٥٠٠ و٥٥٠٠ كيلومتر، وبالطبع هذا الانسحاب يزيد من مخاطر اشتعال الحروب.
استمر ترامب فى انتهاج سياسة العقوبات الاقتصادية ضد العديد من الدول، أبرزها إيران وروسيا وفنزويلا التى حاول ترامب دعم انقلاب يمينى تابع لأمريكا ضد الرئيس المنتخب نيكولاس مادورو، وعندما فشل الانقلاب أمام صمود الشعب الفنزويلى ضرب ترامب حصارًا اقتصاديًا من أجل تجويع الشعب، فى محاولة يائسة لتمرير مخططه فى دعم اليمين فى أمريكا اللاتينية، التى يعتبرها الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأمريكية. حاول ترامب وقف صعود القطب الصينى بإعلان حرب تجارية مع جمهورية الصين الشعبية، ومحاربة شركات التكنولوجيا المتقدمة الصينية، وواجهت الصين ذلك بانتهاج سياسة مثيلة فى التجارة، بل واستطاعت مد يد العون لجميع دول العالم وفق سياسة المنفعة المتبادلة والحفاظ على سيادة الدول، وتعاونت مع كل الدول لمواجهة الفيروس القاتل «كوفيد- ١٩ المستجد» وفق سياسة رباطة المصير المشترك للإنسانية. لقد استمرت السياسات الترامبية الأمريكية فى تأجيج الحروب والصراعات فى منطقة الشرق الأوسط فى ليبيا وسوريا والعراق، بجانب عمل حلف خليجى عربى مع الكيان الصهيونى لمحاربة إيران. كما تخطت كل الشرائع الدولية فى انحيازها التام للكيان الصهيونى وتشجيعه على قيام الدولة اليهودية وعاصمتها القدس الأبدية مع التوسع فى بناء المستوطنات، بل وضم الجولان السورية المحتلة، وأيضًا ضم الأراضى الفلسطينية المحتلة فى الضفة الغربية، وضم غور الأردن، وهذا على حساب الشعب الفلسطينى وحساب قيام الدولة الفلسطينية.
وفى الأيام الأخيرة وبعد ظهور نتائج الانتخابات الأمريكية بخسارة ترامب فى ولاية رئاسية ثانية ونجاح الرئيس جو بايدن، صعَّد ترامب من سياساته تجاه إيران وهدد بشن الحرب عليها وضرب مفاعلها النووى، وظهرت بوادر اشتعال حرب واسعة على المنطقة، ولاحت شواهد تؤيد هذه الخطة، ومنها قيام ترامب بعمليات تغيير واسعة وغير مسبوقة داخل وزارة الدفاع الأمريكية، بدأت بإقالة مارك إسبر، وزير الدفاع السابق «الذى كان قد رفض إدخال الجيش الأمريكى فى مواجهة مع المتظاهرين فى المدن الأمريكية بعد مقتل جورج فلويد، المواطن الأمريكى من أصول إفريقية على يد الشرطى الأبيض»، وحل محله كريستوفر ميللر، وزير الدفاع بالوكالة. هذا بجانب صدور قرارات لسحب القوات الأمريكية من الشرق الأوسط من العراق وأفغانستان حتى لا تطالها الأذرع العسكرية لإيران إذا ما اندلعت حرب فى المنطقة.
ولكن فى الأيام الأخيرة قرر ترامب وقف المضى قدمًا فى تنفيذ الضربة بعدما حذر مجلس الأمن القومى الأمريكى، ونائب الرئيس مايك بنس، ورئيس هيئة الأركان المشتركة، ترامب من أن توجيه ضربة عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية يمكن أن يتصاعد بسهولة لصراع كبير يطال أمن المصالح الأمريكية فى المنطقة ويطال أمن إسرائيل.
ومن الجدير بالذكر أن سياسة ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووى الإيرانى منيت بالفشل، نتيجة لعدم استجابة الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق للانسحاب من جهة، ومن جهة أخرى نتيجة محاولة تلك الدول الالتفاف على قرارات العقوبات وإنشاء آليات جديدة للتعامل مع إيران. وفى الأشهر الثلاثة الماضية منيت سياسة أمريكا- ترامب- ضد إيران بالمزيد من الفشل بعدما رفض مجلس الأمن الدولى الاقتراح الأمريكى بمد العقوبات الدولية الاقتصادية والعسكرية على إيران بعد انتهائها فى ١٨ أكتوبر ٢٠٢٠، وأيضًا رفض تفعيل آلية «سناب باك»، التى تقضى بحظر تصدير واستيراد الأسلحة لإيران لإخلالها بالاتفاق النووى. إن دول أوروبا، وعلى رأسها فرنسا، تأمل فى إعادة الحياة للاتفاق النووى الذى تعتبره أوروبا صمام أمان لمنع الانتشار النووى فى المنطقة. يأمل العالم وينتظر من الرئيس الجديد إعادة النظر فى السياسات الخارجية، والعمل على استيعاب ما يجرى فى العالم من متغيرات.
هل سيكون جو بايدن الأمل فى عودة الدور الأمريكى المتزن الذى يمكن أن يعتمد عليه الحلفاء فى الداخل والخارج؟