رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المغفلة


عن قساوة الظلم كتب الأديب الروسى الشهير أنطون تـشيخوف «قصة المُـغـفّلة»، حكى فيها:
منذ أيام دعوتُ إلى غرفة مكتبى مربّية أولادى يوليا فاسيليفنا لكى أدفع لها حسابها، قلت لها:
- اجلسى يا يوليا.. هيّا نتحاسب.. أنتِ فى الغالب بحاجة إلى النقود، ولكنك خجولة إلى درجة أنك لن تطلبيها بنفسك.. حسنًا.. لقد اتفقنا على أن أدفع لك ثلاثين روبلًا فى الشهر.
قالت: أربعين.
قلت: كلا، ثلاثين.. هذا مسجل عندى.. كنت دائمًا أدفع للمربيات ثلاثين روبلًا.. حسنًا، لقد عملت لدينا شهرين.
قالت: شهرين وخمسة أيام.
قلت: شهرين بالضبط.. هكذا مسجل عندى.. إذن تستحقين ستين روبلًا.. نخصم منها تسعة أيام آحاد.. فأنت لم تعلّمى كوليا فى أيام الآحاد بل كنت تتنزهين معه فقط.. ثم ثلاثة أيام أعياد.
تضرّج وجه يوليا فاسيليفنا، وعبثت أصابعها بأهداب الفستان ولكن.. لم تنبس بكلمة!.
واصلتُ: نخصم ثلاثة أعياد، إذن المجموع اثنا عشر روبلًا.. وكان كوليا مريضًا أربعة أيام ولم تكن دروسًا.. كنت تدرسين لفاريا فقط.. وثلاثة أيام كانت أسنانك تؤلمك فسمحتْ لك زوجتى بعدم التدريس بعد الغداء.. إذن اثنا عشر زائد سبعة.. تسعة عشر.. نخصم، الباقى.. هم.. واحد وأربعون روبلًا.. مضبوط؟.
احمرّت عين يوليا فاسيليفنا اليسرى وامتلأت بالدمع، وارتعش ذقنها.. وسعلت بعصبية وتمخطت، ولكن.. لم تنبس بكلمة!.
قلت: قبيل رأس السنة كسرتِ فنجانًا وطبقًا.. نخصم روبلين.. الفنجان أغلى من ذلك، فهو موروث، ولكن فليسامحك الله! علينا العوض.. وبسبب تقصيرك تسلّق كوليا الشجرة ومزق سترته.. نخصم عشرة.. وبسبب تقصيرك أيضًا سرقتْ الخادمة من فاريا حذاء.. ومن واجبك أن ترعى كل شىء، فأنتِ تتقاضين مرتبًا.. وهكذا نخصم أيضًا خمسة.. وفى ١٠ يناير أخذت منى عشرة روبلات.
همست يوليا فاسيليفنا: لم آخذ.
قلت: ولكن ذلك مسجل عندى.
قالت: حسنًا، ليكن.
واصلتُ: من واحد وأربعين نخصم سبعة وعشرين.. الباقى أربعة عشر.
امتلأت عيناها الاثنتان بالدموع.. وظهرت حبات العرق على أنفها الطويل الجميل.. يا للفتاة المسكينة.
قالت بصوت متهدج: أخذتُ مرة واحدة.. أخذت من حرمكم ثلاثة روبلات.. لم آخذ غيرها.
قلت: حقًا؟ انظرى، وأنا لم أسجل ذلك! نخصم من الأربعة عشر ثلاثة، الباقى أحد عشر.. ها هى نقودك يا عزيزتى! ثلاثة.. ثلاثة.. ثلاثة.. واحد، واحد.. تفضلى.
ومددت لها أحد عشر روبلًا.. فتناولتها ووضعتها فى جيبها بأصابع مرتعشة.. وهمست: شكرًا.
انتفضتُ واقفًا وأخذت أروح وأجىء فى الغرفة واستولى علىّ الغضب.
سألتها: شكرًا على ماذا؟.
قالت: على النقود.
قلت: يا للشيطان، ولكنى نهبتك، سلبتك! لقد سرقت منك! فعلام تقولين شكرًا؟.
قالت: فى أماكن أخرى لم يعطونى شيئًا.
قلت: لم يعطوكِ؟! أليس هذا غريبًا؟! لقد مزحتُ معك، لقنتك درسًا قاسيًا.. سأعطيك نقودك، الثمانين روبلًا كلها! ها هى فى المظروف جهزتها لكِ! ولكن هل يمكن أن تكونى عاجزة إلى هذه الدرجة؟ لماذا لا تحتجين؟ لماذا تسكتين؟ هل يمكن فى هذه الدنيا ألا تكونى حادة الأنياب؟ هل يمكن أن تكونى مغفلة إلى هذه الدرجة؟.
ابتسمتْ بعجز فقرأت على وجهها: يمكن!.
سألتُها الصفح عن هذا الدرس القاسى وسلمتها، بدهشتها البالغة، الثمانين روبلًا كلها.. فشكرتنى بخجل وخرجت.
تطلعتُ فى أثرها وفكّرتُ:
ما أبشع أن تكون ضعيفًا فى هذه الدنيا!.