رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طوق النجاة الوحيد والمنارة التى ترشدنا دون أخذ المقابل



عندما أكتب عما أحبه، أخاف كثيرًا أن تأتى كلماتى أقل من حبى. وأنا اليوم، فى هذه اللحظة، يوم الجمعة ١٣ نوفمبر ٢٠٢٠، الثامنة مساء، أتهيأ لأكتب لها عن عرفانى بالجميل، وكيف كانت ولا سواها، السلوى والعزاء مع ابتلاءات الحياة، ودقات قلبى المسكونة بألف عفريت، وطرقات روحى المحتلة بالأشباح، وخيالات متآمرة على هدوئى وسكينتى واطمئنانى.
أحاول اليوم، فى هذه اللحظة، أن أعترف لها بمخاوفى المستحدثة مع «كورونا»، ومع صحة أمى المتوعكة، ومع الرعشة التى تشبه الكهرباء، تسرى فى قدمى اليسرى دون سبب، دون مرض. أحكى لها كيف قضيت أيامًا فى العناية المركزة، حيث اكتشفوا أن قلبى لا يعمل بالكفاءة الطبيعية، لم يعد قلبى الذى عرفته، وأننى دون نظام صارم من الطعام ونمط الحياة الصحى سأودع قلبى قبل الأوان.
لماذا لا أحكى لها عن كل شىء يؤرقنى، يسحب سجادة الهناء والراحة من تحت قدمى، دون أن يتأنى ليعرف كم أنا الآن، أحتاج الراحة والأمان والطمأنينة والسكينة، ألم تكن هى الطبيبة المداوية دائمًا، وحتى قبل أن أشكو وأبكى وأطلب العون؟
يشجعنى على هذا البوح، وعلى أن أقدّم لها الشكر، وتقديرى على مواقفها معى، أن كلماتى ستُنشر اليوم الإثنين، قبل أن ينتهى شهر ميلادها، الذى بدأه العالم عام ٢٠٠٢، ليكون الخميس الثالث من شهر نوفمبر، العالم الذى أدرك أهميتها، وضرورتها فى تكوين العقول الناقدة المتحررة المبدعة.
أتكلم عن صديقتى الحميمة الوفية، الوحيدة التى أسمح لها بالنوم بجانبى على فراش نومى المقدس، تحتضننى، تغنى لى، تمنحنى عصارة تاريخها وإيمانها، تعطينى حقنة حكمتها الأخيرة.
أتكلم عن صانعة المعجزات فى النفس البشرية، «الفلسفة»، التى ما زالت عند الغالبية، ترادف كثرة الكلام المعقد المتضخم المتغطرس، الذى لا طائل من ورائه، إلا إهدار الوقت والتقاعس عن الفعل.
كنت متأكدة أنها مثل الأشياء الجميلة الراقية، سوف تمر مرور المطر على سحابات الصيف، لن يتذكرها أحد. حتى منْ يتأسفون على أحوالنا، التى تحتاج إلى وقت طويل، لكى تفيق وينعدل مسارها، نسوا موعدها، وانشغلوا بتبادل الاتهامات، وتكرار الأخطاء والتناقضات الفكرية. وفعلًا على يقين أنا، أن الخميس الثالث من نوفمبر، ١٩ نوفمبر هذا العام، سيمر ونحن غافلون عنها.
كنت على يقين، بل إننى راهنت البعض، على أن الإعلام لن يهتم إلا بمهرجانات السينما، والمتبخترات على السجادة الحمراء والخضراء، وأزياء العرى فى الحفلات، وفوز بايدن على ترامب فى الانتخابات الأمريكية، والفتاوى الدينية التى، بعد ذبح الناس وقتلهم، لا تدرج المنظمات الإسلامية المسلحة فى قائمة التنظيمات الإرهابية المحظورة، وأغنيات هابطة فى الكلمات واللحن والصوت، لكنها تحصد ملايين المشاهدات، والمصابين بـ«كورونا» من الفنانين، وبالطبع عن نتائج تصفيات كأس العالم فى الكرة.
وليس آخرًا بذاءات منتشرة على مواقع التواصل الاجتماعى، لا تدل إلا على الأمراض النفسية المستعصية وقلة الحيلة وقلة العقل والمنطق، وقبل أى شىء، قلة الأدب أو انعدامه.
الفلسفة، تلك الساحرة، الواعية، الناضجة، المفكرة، الحكيمة، التى تفتح لنا كل أبواب حرية الفكر وجرأة الأسئلة، ولا نفتح لها بابًا واحدًا صغيرًا، أو نافذة واحدة ضيقة، لكى تتنفس على أرضنا.
لست وحدى التى أدين للفلسفة بكل المنح والامتيازات التى أنعم بها، ولولاها كنت الآن «ريشة فى مهب الريح» لا جذور لها تعصف بها الحياة كما تشاء وترميها أينما تريد.
بل أقول إن البشرية كلها، إذا كانت قد حققت شيئًا «مفيدًا»، «نافعًا»، «راقيًا»، «عادلًا»، «مبدعًا»، «ممتعًا» للإنسان، فهو كلها بفضل الفلسفة، ومولود من رحمها المعطاء.
هناك خطأ شائع، أن الفلسفة رفاهية، وأن فعل التفلسف هامشى غير ضرورى، تقوم به أقلية منعزلة، مستريحة.
لكن التفلسف، شئنا أم أبينا، جزء لا يتجزأ عن الحياة. والفلسفة هى المنارة التى ترشدنا إلى الفهم، وهو ضرورة للتغيير والتقدم والتحرر والسعادة.
إن التفلسف، هو السؤال عن أصل الأشياء. كلمة «لماذا؟» هى جوهر التفلسف.
لكل تجربة بُعد فلسفى. بمعنى أن كل تجربة إنسانية تحوى خصوصية إنسان معين فى زمان ومكان محددين. لكنها فى الوقت ذاته تتجاوز ذاتية وخصوصية ذلك الإنسان، لتلمس آفاقًا إنسانية يواجهها البشر فى كل زمان ومكان. ونقصد بهذا معنى الحياة ومصير الوجود والمرض والحزن والموت والتجارب القاسية إلى درجة أنها يمكن أن تفقدنا توازن العقل وطمأنينة الروح والتصالح مع صفعات الزمن.
إن الرغبة المستمرة فى الفهم تجعلنا ندرك أن التجربة، فى حد ذاتها، ليست «مهمة» أو «تافهة». القضية هى كيفية النظر إلى التجربة. القضية هى كيف نتجاوز ما هو جزئى وشخصى وعابر، إلى ما هو كلى وغير شخصى وغير عابر.
إذا كنا نريد إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حياتنا، ومن العالم المتهاوى حولنا، فإنها وحدها «الفلسفة» طوق النجاة والمنارة التى ترشدنا دون مقابل. فهى تمنح ولا تفكر فى الأخذ، فى عالم يأخذ من كل شىء، ولا يعطى شيئًا إلا التعاسة وأمراض الجسد والروح، والشراهة لكل الغرائز المتدنية.