رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اللون والدين والسياسة



نحن نصف أى شىء ردىء بأنه «أسود»، فنقول: ليلة سوداء، وقلبه أسود، وحظ أسود، والجمعة السوداء حين تتدهور الأسعار، أما الأشياء الجيدة فكلها بيضاء، الملائكة، والقلوب، والنوايا، وحتى عندما نصف شخصًا كريمًا فإننا نقول إن «له أيادى بيضاء».
وهذه التركة اللغوية العنصرية جزء مما تركه التفوق الأوروبى السياسى والعسكرى على القارة السمراء، ودمغ الغزو والمدافع كل ما اعترض طريقه بالسواد ومجّد الأبيض، حتى أن طرزان ملك الغابة الإفريقية السمراء كان أبيض! وبطبيعة الحال فإن نسف تلك المفاهيم فى اللغة والثقافة يحتاج إلى جهد كبير وزمن طويل.
من ناحية أخرى لا ينبغى لتلك المفاهيم أن تجعلنا نتخيل أن كل ما هو أسود فى صالحنا ومعنا ولأجلنا! هكذا تخيل الكثيرون الرئيس الأمريكى باراك أوباما عند وصوله الحكم، فقط لمجرد أنه «أسود»! وفى حينه فى ديسمبر ٢٠٠٩ كتبتُ مقالًا ما زال موجودًا على النت بعنوان: «الرئيس أوباما.. دماثة فقراء وسياسة أغنياء»، قلت فيه إن أوباما الذى تفاءل الكثيرون بلونه أعلن فى خطابه، فى ١ ديسمبر ٢٠٠٩، عن مواصلة الحرب الأمريكية فى أفغانستان ونيته إرسال ثلاثين ألف جندى إضافى، ليس اللون هو الذى يحدد التوجه السياسى، بل المصالح الاقتصادية والسياسية.
أقول هذا لأن موجة تفاؤل ترتفع من جديد لمجرد أن نائبة الرئيس الأمريكى الجديد، السيدة كامالا هاريس، من أصول إفريقية وذات بشرة سمراء! ولا شك أن الرئيس ترامب كان يثير استياءً عابرًا للقارات بمجرد ظهوره فى أى مكان، وأن سقوطه فى الانتخابات أمر مبهج، لكن ذلك لا يدفعنا أيضًا للتفاؤل الشديد بالرئيس بايدن، الذى قال بوضوح فى خطاب ترشحه للانتخابات الرئاسية عام ٢٠٠٧: «أنا صهيونى»، وهو الذى قدم الدعم لمنظمة «إيباك» الصهيونية فى مؤتمرها السنوى فى مارس هذا العام، منوهًا بما سماه: «الدعم الأمريكى المطلق لإسرائيل»، وهو القائل أيضًا: «لو لم تكن إسرائيل موجودة لقمنا باختراعها».
المصالح الاقتصادية والعسكرية تبقى فوق كل شىء، ولا علاقة لذلك باللون ولا بالدين، ولنتذكر أن الرئيس بايدن هو القائل: «ليس على المرء أن يكون يهوديًا ليكون صهيونيًا»، وكما أن بايدن مسيحى صهيونى فهناك أيضًا مسلمون صهاينة، وحتى الحروب الصليبية التى شُنت على العرب، منذ أواخر القرن الحادى عشر حتى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر، كانت تتقنع بقناع دينى، بينما كان دافعها الأول اقتصاديًا وسياسيًا، فقد سادت فى السنوات السابقة على الحملات الصليبية مجاعات قاسية فى أوروبا، خاصة فى فرنسا وألمانيا، مما يفسر خروج معظم جنود الحملات من هذين البلدين، وفى الوقت نفسه حرص ملوك التجارة البحرية المزدهرة فى إيطاليا على دعم الحملات المتجهة للشرق لفتح المزيد من الأسواق، ولم يكن الصليب سوى قناع يغطى الأهداف الحقيقية، كما يستخدم الإخوان الإسلام والدين قناعًا للوصول إلى أهدافهم ليس إلا.
ولم أكن أتخيل أن أكتب عن اللون والدين والسياسة لأفصل بين كل أولئك، لولا أننى تتبعت مناقشات عديدة فى وسائل التواصل الاجتماعى تنطلق من لون بشرة السيدة كامالا هاريس الداعية إلى التفاؤل، وتنطلق مما تبدو أنها حكمة بايدن وتعقله إلى مزيد من التفاؤل، وفى كل تلك الحالات يغض الجميع النظر عن الثوابت التى تتحكم فى السياسة الأمريكية: المصالح، والهيمنة الاقتصادية، والنفوذ، والسيطرة.
وهنا سيكون الفارق طفيفًا بين بايدن وترامب، وسينحصر الفارق فى الأداء، أى فى طريقة تحقيق تلك المصالح، أما قواعد اللعبة فهى راسخة ولا تتغير، بالضبط كما فى مباريات كرة القدم، القواعد ثابتة واللاعبون يختلفون، ويكون الأداء ساخنًا أحيانًا أو فاترًا أحيانًا أخرى، لكن على أساس نفس القواعد.