رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فأر أسود ينهش قطتى


وقعت منى الإبرة وانهمرت دموعى دافقة، شعرت بحرارتها تكوى رحمى، والبئر الفارغة سقطت فيها، وتنهيدات البحر الموحش تصم أذنى، قتلت الأسود ولكن بياض قطتى هرب.. اختفى.. تلاشى.. كيف يتلازم الأبيض والأسود؟ ماذا فعلت لها؟ ألم تكن تصرخ؟ ألم أستجب لها؟ ألم أنقذها؟ هل تأخرت؟ هل توقعت منى رعاية وحماية لا تُعرضها لخطر المضايقة؟.. أدرك متأخرًا، أن الله يتحدث غالبًا مع الذين يأثمون أكثر مما يتحدث مع الذين لا يأثمون.
رأيتها مصابة.. وكأنه مقضوم من لحمها.. قد انتزع جزء من فخذها، فجزعت وسألت عمَّا أصابها، فأجابتنى الخادمة: إنه الفأر.. الفأر! أى أنه ليس مجرد فأر، بل هو فأر تعرفه الخادمة وتحدده بلام التعريف، فهلعت من فكرة وجود فأر فى بيتى.. كيف سأعيش فى بيت به فأر؟ متى جاء؟ وأين كنت؟ هممت بأن أغادر وأترك البيت، وفجأة وجدت: «ميتشا» تتلوى وتصرخ كما تفعل عندما أدوس خطأً على ذيلها، كعادتها تمسحت فى ساقى، لكنها كانت تتلوى وتدور حولى، والخادمة تصرخ: الفار يا مدام.. نظرت للقطة، ظهرت بقعة سوداء متحركة بين فروها الأبيض، بدت صغيرة كخنفسة، ثم تضخم السواد وصار حقيقة.. ورأيت فأرًا أسود متعلقًا بأظافره وأسنانه بساق قطتى، والقطة مستسلمة، فقط تتحرك حنجرتها وتهتز بصراخ وجع وقلة حيلة، حاولت أن أصرخ فلم أجد صوتى، أمسكت بشىء صلب «حجر أم حذاء»، لا أعرف، لكنه كان ثقيلًا ويملأ كفى، أخذت أضرب الفأر فى حركات متتالية على ظهره ورأسه، حتى أفلت القطة، هربت وابتعدت بأبيضها عن مجال رؤيتى.
سقط الفأر على الأرض، لم أكف عن ضربه حتى تحول لما يشبه الخفاش.. لم أصدق أنى قتلت فأرًا.. كنت سعيدة.. سعيدة حتى استيقظت وتنبهت.. ما هذا؟! هل تأكل الفئران القطط؟ المفروض العكس، الطبيعى القطط هى التى تأكل الفئران.. انقبض قلبى وظَلَّ ظِلُّ الفأر الأسود جاثمًا على روحى، وخوفى على قطتى «ميتشا» يتصاعد كلحن جنائزى حزين.
لم يسبق أن قتلت فأرًا فى أحلامى، لكنى قتلت فى يقظتى ثعبانًا حاول الدخول إلى شقتنا.. كنت عائدة للتو من المدرسة مرتدية زى الكشافة بلوزة بيضاء وجيب زرقاء، وعلى رأسى كاب نبيتى، وشارة على ذراعى اليمنى، ممتلئة بالزهو للزى الذى يظهر أنوثة تطل باستحياء، خوفًا من الراهبات واتهام بالإغواء والغواية، فنراوغ الطبيعة ونزوغ منها، ونتركها لتتملكنا فى بعض الأوقات.
على بسطة السلم، وقفت أخلع حذائى ورأيته يزحف هابطًا سلالم البيت، قادمًا من الدور العلوى، ثعبان أسود متوسط الطول.. اقترب وأنا أفكر ماذا أفعل؟ حتى انتهى من درجات السلم وتمدد جسدًا أسود كمسبحة من الخطايا والذنوب، ككل الضحكات والبسمات التى تملأ صدر شابة عندما تسمع صوتًا خشنًا يصيح:
- قمر..
كتموجات الفرحة لعبارة: يا أرض اتهدى..
وتصفيقة بكفين: يا صلاة النبى وكل من له نبى يصلى عليه.
أمسكت حذائى.. حذاء بكعب متوسط وجلد صناعى به «ورود» محفورة، تحتاج رعاية خاصة لتجمع التراب عليها. اقترب برأسه، عاجلته بخبطات محمومة، فاقدة السيطرة على التتابع المتسارع، بكل الخوف من الشر الذى يسببه ثعبان فى بيت، فلا تعرف فى أى قطعة أثاث اختبأ، ومن أى مكمن سيلدغك.. تجسد الشرير على عتبة البيت.. وتلبستنى روح القديس أنطونيس وهو يحارب شياطينه.. وفى داخلى ترددت صيحة السيد: بئس العبد.. الرب يمتحن العبد، والعبد لا يمتحن الرب..
تهشم رأسه، تمزق، انعجن، لم أكف عن الضرب حتى تجمع أمامى من كان بالبيت.
فرح أبى، زغردت أمى، صار ما سماه الجميع «شجاعتى» مثلًا وحكاية، لا أستطيع أن أدَّعى أنها شجاعة، لم أفعل سوى ما كان يجب على شخص أن يفعل.. من ينام وفى بيته ثعبان؟!
ومرت الأيام، ورأيت منها الكثير ولكن أعجبه وما لم أتوقعه أبدًا أن أرى فأرًا أسود ينهش قطتى.