رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ما هذه المجتمعات التى تختصر شرف المرأة فى «غُرزة» تُرقع؟


لا أعتقد أن هناك مجتمعات مثل مجتمعاتنا، مؤرقة فى نهارها وليلها بالجدل حول «شرف البنت» و«شرف المرأة» و«عذرية الفتاة»، ومنشغلة على مر عصورها، وأزمنة السلف الصالح، وغير الصالح، بــ«مراقبة» ماذا تفعل المرأة بـ«النصف الأسفل» من جسدها، وإصدار الأحكام الأخلاقية والاجتماعية والثقافية والدينية عليه.
نظرة سريعة إلى حال مجتمعاتنا وتفزعنا الحقيقة. الكل يتسابق ليدلى بدلوه فى قضية شرف البنت. الكل متحفز لقول كلمته عن شرف المرأة. فالتقاعس عن ذلك يعتبر من باب الخيانة التى لا تغتفر، فشرف البنت، أو شرف المرأة، فى عرف المجتمع الذكورى هو شرف الأسرة، وبما أن الأسرة هى نواة المجتمع الأولى يكون «شرف» المرأة هو شرف المجتمع الذكورى كله بالضرورة، والكل «طواعية» مدفوعًا بنوازع الوطنية، وحماية الأخلاق، وشرف البلاد، يدخل فى «المزايدات» حول جسد المرأة وعذرية المرأة، والتى تعكس ثقافته ومصالحه ومزاجه وفكرته عن الشرف والأخلاق والجسد.
الكل يقول كلمته حول جسد المرأة وشرفها إلا المرأة نفسها، صاحبة الجسد، ومالكة الجسد.
تظل المرأة مختبئة وراء أنواع من «الأحجبة»، سواء من القماش أو من القيم، صُنعت تاريخيًا لكى تتلقى مبتسمة رأى الذكور فى جسدها وحكم الذكور فى أخلاقها ووصاية الذكور عن شرفها وعذريتها.
قُدّر للمرأة أن تحمل لعنة الجسد الملتصق بها، تعانى ما يحيطه من قيم الأنوثة المزيفة، وما يسببه من أوجاع شهرية وتغيرات هرمونية ومضاعفات الحمل والولادة وعبء تنظيم النسل وأضرار العنف الجسدى وابتذال العرى لترويج السلع فى المحلات والإعلانات والمهرجانات والحفلات. كل ذلك دون أن يكون لها حق ملكية هذا الجسد، أو شرعية التحدث باسمه أو الدفاع عنه أو حتى مجرد الغضب مما تبثه أنظمة التسلط الذكورية.
وتتجدد دائمًا، حوادث «العذرية» و«اغتصاب» الفتيات، وكم أفزعتنى وأدهشتنى الآراء التى قيلت عن كيفية «إعادة العذرية»، وبالتالى استرجاع الشرف للفتاة المغتصبة، حتى لا يقتلها الزوج فى ليلة الزفاف.
إن «إعادة العذرية» بالخياطة وعمل غرز ليست فقط جريمة «طبية» ولكنها فى المقام الأول جريمة «أخلاقية» و«إنسانية» فى حق الفتاة المُغتصبة.
ألا يكفى أن الفتاة قد تعرضت لاعتداء جنسى قد يصيبها بعقد جنسية ونفسية لا حل لها؟
إن الاغتصاب اعتداء من فرد عليها واعتداء قد أُجبرت عليه. لكن «إعادة العذرية» بالخياطة والغرز والترقيع اعتداء جماعى من المجتمع بأسره مدفوعة إليه باختيارها، وعلى ملء سمع وبصر الجميع.
والكارثة الكبرى، أنه «اعتداء» يتم تحت اسم الشرف والأخلاق والفضيلة. الكارثة الكبرى أن الفتاة المغتصبة من «ذكر» فالت الشرف متسيب الأخلاق معدوم الفضيلة، هى الضحية المجنى عليها، ولكنها هى المطالبة من قِبل المجتمع بأن تدفع ثمن عدم الشرف وعدم الأخلاق وعدم الفضيلة للجانى. يطالبها المجتمع وهى الضحية بأن تضع جسدها المغتصب على مائدة الشرف المزيفة وتخضعه لعمليات القص واللزق والترقيع غير الأخلاقية.
أما الذكر القائم بالاغتصاب فهو حر تمامًا، وجسده فى مأمن ومحاكمته متهاونة، رقيقة، متفهمة للنوازع الكامنة، والدوافع الغريزية والكبت المتراكم وحقيقة موروثة تقول «الراجل ميعيبوش إلا جيبه». إن شرف البنت أو شرف المرأة ليس «غرزة» يتم ترقيعها أو عدم ترقيعها.
إن شرف البنت أو شرف المرأة، ليس مكانه النصف الأسفل للجسد. إن الشرف، حتى يكون حقًا «شرفًا» أو فضيلة، أو أخلاقًا، لا بد أن تطبق معاييره على جميع البشر، دون تفرقة بين رجل وامرأة، بين غنى وفقير، بين أبيض وأسود، معايير واحدة لكل الأديان والملل والمذاهب والعقائد والأفكار. شرف الإنسان لا بد أن يكون واحدًا، ولا بد أن يكون مرتبطًا بالنصف الأعلى من الجسد، أى بالعقل والتفكير. فالعقل هو الذى يعطى الأوامر للجسد، والتفكير هو الذى يميز بين الأدب وانعدام الأدب. والتفكير مكانه النصف الأعلى من الجسد وليس أسفله.
شرف الإنسان «رجلًا أو امرأة» هو قدرته على الاستقلال الاقتصادى والنفسى، هو القدرة على مواجهة العالم بما نؤمن به ونفعله، وليس إخفاؤه تحت اسم «الخوف من التقاليد»، أو «إعادة العذرية»، أو «ديكور الأخلاق». الشرف هو القدرة على السباحة ضد التيار ودفع ثمن اختلافنا.
إن شرف المرأة هو فى عقلها وشخصيتها وفلسفتها، لتغيير ذاتها من كيان تابع مقهور إلى كيان حر مستقل. شرف المرأة هو رؤيتها النقدية لمجتمعها لتغييره إلى الأشجع والأعدل والأجمل والأصدق.
إن مفهوم مجتمعاتنا عن «الشرف» مخجل ومضحك ومحزن فى آن واحد. كيف للإنسان العربى «الرجل العربى والمرأة العربية» أن يواجه مشكلاته الحاضرة وتحدياته المستقبلية وهو مقتنع بأن الأخلاق والفضيلة فى أسفل أجساد النساء، مشاريع «غرز» محتملة؟
كيف للرجل العربى أن يثق فى مجتمعه ويشعر بالانتماء إليه ومجتمعه يطالب أخته أو ابنته أو خطيبته الفتاة المغتصبة «من رجل آخر»، بأن تخفى الأمر بـ«الترقيع» وتكذب على الزوج المستقبل؟
ما هذا المجتمع الذى يتعاطى الكذب والترقيع باسم الشرف؟. وما هذه المجتمعات التى تختصر المرأة الإنسانة العاقلة المفكرة الرشيدة فى «غرزة»؟.