رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

روبرت فيسك.. وداعًا


يعز علىّ أن يرحل الأصدقاء من دون وداع، وأن يتوارى ذكرهم فى ضجيج الأحداث السياسية، كما حدث حين ابتلع اشتعال الانتخابات الأمريكية نبأ رحيل روبرت فيسك فى العاصمة الأيرلندية «دبلن»، الأول من نوفمبر، عن ٧٤ عامًا.
كان فيسك قد أصيب بجلطة فى المخ نقل على إثرها إلى المستشفى، حيث بقى يومين عاد بعدهما إلى بيته لكنه فارق الحياة، إلا أن رحيل الصحفى البريطانى الشهير توارى مثل نغمة عذبة غطى عليها قرع الطبول.
وقد عرف فيسك بأنه أشهر من ناصر القضايا العربية، خاصة القضية الفلسطينية، ودافع من دون كلل عن الحق الفلسطينى فى مختلف الصحف البريطانية وغيرها.. كان فيسك شاهدًا على أبرز الحروب العربية خلال الأربعين سنة الماضية، وقام بتغطية الحرب الأهلية اللبنانية، ورصد مذبحة صابرا وشاتيلا، والثورة الإيرانية، والحرب العراقية الإيرانية، وحرب الخليج الأولى، وغزو العراق فى ٢٠٠٣، ومذبحة غزة فى ٢٠٠٩، حتى ثورة يناير ٢٠١١ فى مصر.
وكان فيسك أول من كشف عن دور شمعون بيريز فى مذبحة «قانا» بجنوب لبنان، وأول من نشر صورًا مرعبة من المجزرة، ثم أصدر كتابه «ويلات وطن» عن معاناة اللبنانيين. وفى كل ذلك وقف فيسك معارضًا سياسات الاستعمار الغربى الأمريكى والبريطانى، وله فى ذلك كتاب بعنوان: «الحرب الكبرى تحت ذريعة الحضارة.. السيطرة على الشرق الأوسط».
وحين شاهد فيسك إسرائيل تغزو غزة بالدبابات والطائرات الأمريكية كتب يقول: «أستطيع أن أفهم بوضوح لماذا يكره العالم أمريكا».. وكان فيسك فى موقفه المناصر للحق الفلسطينى امتدادًا لموقف سلفه الكاتب العظيم برنارد شو، الذى ندد بمذبحة دنشواى وبسياسة بلده بريطانيا حين وقعت المذبحة فى ١٣ يونيو ١٩٠٦، وكتب «شو» فى حينه مقاله «فظائع دنشواى»، وقال فيه: «حاول أن تتخيل مشاعر قرية إنجليزية يظهر فيها فجأة عدد من الضباط الصينيين ليصطادوا البط والدجاج، ثم حملوا ما صادوه مؤكدين أنها طيور برية!» ويمضى الكاتب العظيم فيسخر من الاحتلال البريطانى متوقعًا زوال الإمبراطورية البريطانية.
وفى مقال له فى صحيفة «الإندبندنت» تحت عنوان: «ماذا لو قتل ٨٠٠ إسرائيلى فى عملية غزة؟»، يقارن فيسك بين الاهتمام الإعلامى الدولى بأى إسرائيلى مصاب مقابل تجاهل ذلك الإعلام مئات الشهداء الفلسطينيين، ويقول: «لو كان الموقف معكوسًا وكان الذين قتلوا ٨٠٠ إسرائيلى لكان الغرب سيسمى ما حدث مذبحة وليس دفاعًا عن النفس.. بل ولكانت الولايات المتحدة قد تدخلت لدعم إسرائيل عسكريًا، بيد أن الحقيقة التى لا يعترف بها أحد هى أن العالم لا يعبأ بموت الفلسطينيين»، ودعا فى نفس المقال إلى «إنهاء الحصانة التى تتمتع بها إسرائيل».
وموقف روبرت فيسك الإنسانى امتداد ليس فقط لأسلافه من الكُتّاب البريطانيين الأحرار، بل وامتداد لآخرين مثل «جان فانتيمو»، الفيلسوف الإيطالى الذى اتهم إسرائيل فى أغسطس ٢٠١٤ بالنازية خلال حوار مع إذاعة «راى» الإيطالية، وقال: «إن جرائم إسرائيل فى غزة تفوق ما ارتكبه هتلر فى حروبه ضد البشرية»، وما عبّر عنه فيسك بثبات وضمير حى على مدى أربعين عامًا وثيق الصلة بالضمير الإنسانى الذى يتسع لأسماء أخرى، مثل الكاتب البرتغالى الكبير جوزيه ساراماجو، الذى زار مخيم جنين بعد المجزرة وأعلن صراحة: «لقد ارتكب الجيش الإسرائيلى أشياء تتسم بصفات جرائم هتلر النازى فى معسكر أوشفيتس»، ولا ننسى هنا بيان الروائى العظيم جابرييل جارسيا ماركيز «ليل الضمير البشرى» الذى قال فيه: «إننى أعلن هنا إعجابى غير المحدود ببطولة الشعب الفلسطينى على الرغم من إنكار القوى الأعظم والمثقفين الجبناء وجود ذلك الشعب».
وقد عاش فيسك مثل نجمة لامعة فى سماء الضمير الإنسانى مع الآخرين العظماء، وكل مقال كتبه روبرت فيسك كان طلقة فى وجه الكذب، وفى وجه السيطرة الإعلامية للدول الكبرى، وانفرادها بنشر الأكاذيب.