رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ يوسف الدجوى.. العالم والمُصلح والمُجدد



لم يخل عصر من العصور الإسلامية من العلماء والمصلحين، الذين يحيون ما أمات الناس من سنن، وما أفسدوا من شرائع، وما عطلوا من أحكام، ويرجعون بالناس إلى الدين فى سهولته وهدايته كما كان فى الصدر الأول، ويجمعون كلمة المسلمين على ما أجمعوا عليه قبل التفرق والاختلاف، ويعد الشيخ يوسف الدجوى أحد هؤلاء العلماء والمصلحين الذين جددوا فى المسلمين أمور الدين والدنيا، وأوقفوا حياتهم على خدمة الإسلام والمسلمين.
الشيخ يوسف أحمد نصر سويلم الدجوى ينتهى نسبه إلى حبيب بن سعد، من قبائل العرب الحجازية. وُلد الشيخ الدجوى فى قرية «دجوة» بمحافظة القليوبية عام ١٨٧٠م، ونشأ بها وحفظ القرآن الكريم، أُصيب فى طفولته بمرض الجدرى حتى كُفَّ بصره، ولم يمنعه ذلك من استكمال تعليمه وتحقيق طموحه.
نشأ فى بيت علم وفضل ووجاهة، إذْ كان والده رئيس قريته، ومنزله محط الغادين والرائحين، ومثابة مَن يفد إلى القرية من العلماء والأعيان، وله مكتبة عامرة بكتب الفقه والأدب والتاريخ، وقد دفع بولده الصغير إلى مَن يُحفِّظه كتابَ الله، فبدت دلائل النبوغ على الطفل الناشئ، إذْ تمتع بذاكرة حافظة تستوعب ما يُراد استيعابه دون جهد. وكان يسمع الحوار العلمى فى منزل والده فيعيه على حداثة سنه، فاتجهت الرغبة إلى إلحاقه بالأزهر الشريف، بعد أن درس فى القرية مبادئ الفقه والنحو والسيرة النبوية.
تلقَّى العلم على يد كبار علماء عصره، كالشيخ هارون عبدالرازق البنجاوى، والشيخ سليم البشرى شيخ الأزهر، وغيرهما. وما كاد ينتظم فى دروسه حتى برز بين أقرانه؛ لأن ما درسه من مبادئ العلوم كان سُلَّمًا إلى ارتقاء ذهنه، وقد أُوتى جلدًا على الدرس، فكان لا ينقطع عن حلقات الدروس بالأزهر، فهو دائم التردد على مجالس الأساتذة حتى أصبح موضع الثقة بين زملائه يتوجهون إليه حين يحتاجون إلى استعادة ما قال الأستاذ فى درسه، ويذهبون فى المساء إلى منزله ليتذاكروا معًا مسائل العلم، ولم يمر زمن طويل حتى أخذ يُدِّرس لإخوانه كتب الأزهر قبل أن ينل درجة العالمية، فيجتمع حوله الطلاب واثقين بعلمه.
نال الشيخ الدجوى شهادة العالمية من الدرجة الأولى الممتازة سنة ١٨٩٧م، ثم عمل بالتدريس بالأزهر، وكان لعلمه العميق وفهمه الناضج وأسلوبه البليغ أثر عميق فى اجتذاب الطلاب إلى الدراسة والالتفاف حوله، وتخرَّج على يديه كثير من العلماء وكبار الأساتذة ورؤساء المحاكم الشرعية والمحامين. وكان امتحانه النهائى يومًا مشهودًا، إذ اجتمع له الأفذاذ من علماء الأزهر مقدرّين مكانته، وفى مقدمتهم شيخ الأزهر العلامة سليم البشرى، فأطالوا نقاش الطالب ليكشفوا عن معدنه النفيس ومنحوه أعلى الدرجات، وسارع بعضهم إلى زيارة منزله مهنئين واثقين بما سيجرى عليه من خيرٍ للعلم، ورأت المشيخة أن تسند إليه الكتب العويصة على غير عادتها مع زملائه، فالتفَّ حوله الطلاب، وشهدوا بإحاطته الشاملة وبصره النافذ فى الدقائق المشتبهة.
كان الشيخ الدجوى آيةً فى الذكاء وسرعة الخاطر وجودة البيان وقوة الذاكرة وسعة العلم، يحضر حلقات دروسه فى الأزهر الشريف مئات من العلماء وطلبة العلوم، وتتوارد إليه استفاءات من شتى الأقطار والجهات. كما كان سمحًا كريمًا يعطف على الغرباء ويهشُّ لتلامذته وطلابه.
تنوعت دروس الشيخ الدجوى، فلم تقتصر على فن واحد؛ لذا أراد الشيخ أن يتسع بعلمه إلى أرحب مجال، فدعا إلى دروسٍ فى عامة التفسير يلقيها بالرواق العباسى تشبهًا بالإمام محمد عبده، فاتسعت حلقة درسه، وحضر الطلاب بأوراقهم ليسجلوا ما يفتح الله به على الشيخ. على أن جهد الشيخ يوسف لم يقتصر على الطلاب، إذ رأى أن تكون الصحافة بعض ميادينه العلمية. كما انضمَّ الشيخ الدجوى إلى هيئة كبار العلماء فى دفاعها عن الإسلام وتفنيد مزاعم الشيخ على عبدالرازق فى كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، الذى زعم فيه أن الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا علاقةَ لها بالحكم، ولا دخلَ لها بالسياسة والتنفيذ فى أمور الدنيا.
أثَّر الشيخ «الدجوى» فى جيلٍ من الشباب الذين تربوا على فكره وتوجيهاته، من بينهم طلائع الحركة الوطنية فى ثورة ١٩١٩م، أمثال الشيخ محمود أبوالعيون، والشيخ مصطفى القاياتى، وعبدالله عفيفى، وقد كان هؤلاء وغيرهم ثمرة من ثمار جمعية النهضة الإسلامية التى ألفها الشيخ «الدجوى» لمقاومة الإلحاد فى شتى مظاهره، واختار لها ذوى الغيرة الدينية من رجال مصر، فكانت الجمعية الدينية الثانية فى مصر، إذ سبقتها جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية، وقد بذلت الجمعيتان جهدًا ذاتيًّا ملحًّا فى مقاومة الإلحاد.
لقد كان هذا الشيخ، على الرغم من علو مكانته، رقيق العاطفة يتألم لألم المسلمين ويحرص على وحدة الصف الإسلامى فى مواجهة تيارات الإلحاد القوية، وينسى خصوماته الفكرية مع غيره من العلماء، ولا يتحرج أن يأنس لكلام أحد تلامذته ويتعاون معه فى خدمة الإسلام والمسلمين.
تُوفى الشيخ يوسف الدجوى بعد حياة حافلة بالعلم والعطاء فى شهر يناير ١٩٤٦م، وصلى عليه شيخ الجامع الأزهر ودُفن فى عزبة النخل.