رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأدوية المؤدية إلى الحياة


فى صلوات الكنيسة القبطية يوجد قداس باسم القداس «الأغريغورى» نسبة إلى القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس «٣٢٨ - ٣٩٠م» أى اللاهوتى، وهو القديس الفائق الحياة الروحية الصادقة، الذى تحتفل الكنيسة القبطية بتذكار نياحته فى ٢٤ توت الموافق ٤ أكتوبر، هذا القديس هرب من المناصب الكنسية الرسمية كما سبق وكتبت عنه. فمن بين القطع التى وردت فى صلوات القداس الذى يحمل اسمه: «ربطتنى بكل الأدوية المؤدية إلى الحياة»، وهنا يتحدث عن وسائط النعمة المختلفة التى يحيا بها الإنسان المسيحى فى الحياة ويحرص على التمسك بها والتمتع بها، بينما يطالعنا أحد أساقفة هذه الأيام بعبارة «ثقافة التضرع»!! يا للهول، هل التضرع والصلاة أصبحا ثقافة؟ ألم يعرف هذا الأسقف أن الصلاة هى علاقة مباشرة مع الله بدون ثقافة!! بينما الكاهن التقى الأب ميخائيل سعد عندما تحدث عن التضرعات قال: «روح التضرعات». هناك فرق بين الذى مارس الصلاة بصدق والذى يتحدث عنها!.
تطالعنا الجرائد اليومية والأسبوعية أخبار كوارث بشرية مؤلمة تحدث على أرضنا الطيبة، كما تحدث فى أنحاء متفرقة من العالم سواء المتحضر أو النامى. وبنظرة فاحصة لأسباب تلك الكوارث- التى هى من صنع الإنسان- نجد أن السبب واحد فقط وهو غياب الضمير! أين إذن «صوت الضمير» الذى يندد ويحذر ويبكت؟ أين نجد الإنسان ذا الضمير الحى الذى يرفض أن يكون عبدًا لفكر شرير، أو إنسان باطل، أو عادة سيئة؟ بالحقيقة لم يعد أسلوب حياتنا اليومى يوقظ الضمير الذى فينا، فغدًا كل إنسان يبحث عن سعادة نفسه على حساب سعادة الآخرين، ويمجد ذاته ويكرمها على حساب إذلال الآخرين، ويحقق نجاحًا مؤقتًا فى حياته على أطلال فشل الآخرين، عجبى. أذكر كلمة رائعة سجلها يومًا الفنان القدير الأستاذ حسين بيكار بجريدة الأخبار فى ١٨١٠١٩٩٦ تقول: «ولعوله الشمع فى عيد ميلاده عشان يحتفى.. بسنين ولت وراحت، وسنين راح تختفى.. ولما شاف الشمع بنفخة واحدة بينطفى.. قال عجبى على ابن آدم لا بيشبع ولا بيكتفى!!». فالضمير كما يُعرفه «وايلند»: «هو قوة أدبية بها يدرك الإنسان ماهية أفعاله الأدبية، فيمكنه إذ ذاك التمتع بميوله وإحساسات معينة». ويضيف ديفيد هيوم قائلًا: «إن الحكم الأخير على أعمالنا سواء أكانت محمودة أو مرذولة يتوقف على إحساس أو شعور داخلى يتمتع به مختلف الأجناس والأنواع».
إن الضمير اليقظ يرد لصًا إلى طريق الأمانة والاستقامة، ويرد ضالًا إلى طريق الصلاح والبر. وهذا ما أوضحه لنا «شكسبير» فى رواية «ريتشارد الثالث» حينما قدم لنا وصفًا للضمير على لسان سفاح أراد أن يقتل «كونت كلارنس» فيقول: «دعنى وهذا (أى الضمير) فما أشد خطره فهو يقودنى إلى الجُبن ولا أستطيع السرقة، لا أستطيع الحلف زورًا. ويل لى من هذا الروح الخجول الثائر بين أضلعى يجعلنى أرد نقودًا كنت عثرت عليها فأصبحت لا أملك شراء نقير». فالضمير يقوم مقام ميزان عدل يهدى صاحبه إلى الطريق السوى زاجرًا ومعلمًا، منبهًا ومحذرًا. فوظيفته كشف النقاب عن واجباتنا الأدبية وتلمس الطريق الصالح للوصول إلى أفضل الأعمال وأصلح الأفعال. فى غياب الضمير نخون الوطن!! وفى غياب الضمير نخالف قوانين وتقاليد الكنيسة بل ونكذب!!
ومن أجل تنشئة مواطن صالح ذى ضمير حى تأتى أهمية التربية، بالإضافة إلى خبرة الحياة. فالطفل يولد وبه غرائز أدبية تنمو تبعًا للبيئة التى ينشأ فيها. لذلك نجد الطفل- فى مبدأ الأمر- دائم المعارضة لتحكم والدته فيه، ثم عندما يشب وينمو فى القامة والنعمة تنمو لديه غريزة حب النظام والطاعة واحترام الآخرين بل ويبدأ يدرك بالاختيار شر العصيان وسوء الانفراد بالرأى بل وخطورة فرضه على الآخرين بدون مناقشة ديمقراطية- وهنا يقول «جان جاك روسو»: «إن أول إحساس فينا بالعدل لا ينشأ عن واجباتنا نحو الآخرين، بل عن واجباتهم نحونا». لذلك عندما يتسع مجال العمل الذى يقوم به الإنسان يبدأ يدرك أن معاملة الآخرين له بالحسنى تتوقف أساسًا على معاملته لهم، وفى هذا تقول الحكمة: «كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا هكذا أنتم أيضًا».
الإنسان ذو الضمير اليقظ يدافع عن المظلوم، ولا يقول إلا الحق، ويتقن عمله، ويهتم بالفقير، ويملك قناعة حقيقية فيما يقتنيه ولا يتطلع إلى مقتنيات غيره. فلنستمع جيدًا إلى صوت الضمير الذى يقودنا حتمًا إلى عمل الخير.
أثناء وجود الاستعمار البريطانى فى الهند، حدث أن ضابطًا بريطانيًا صفع مواطنًا هنديًا على وجهه، فكان رد فعل المواطن الهندى أن صفع الضابط بكل ما يملك من قوة وأسقطه أرضًا. ومن هول الصدمة المُذلة انسحب الضابط من المكان وهو يستغرب كيف تجرأ مواطن هندى على صفع ضابط فى جيش إمبراطورية عُظمى، واتجه إلى مركز قيادته ليحدثهم بما حدث، ويطلب المساعدة لمعاقبة هذا المواطن الذى ارتكب جرمًا لا يغتفر. لكن القائد الكبير هدأ من روعه، وأخذه إلى مكتبه، وفتح خزينة ممتلئة بالنقود وقال للضابط: خذ من الخزينة خمسين ألف روبية، واذهب إلى المواطن الهندى واعتذر له على ما بدر منك وأعطه هذه النقود مقابل صفعك له!! قال الضابط مستنكرًا: أنا من له الحق فى صفعه وإذلاله، لقد صفعنى وهو لا يملك الحق، هذه إهانة لى ولك ولجيش صاحبة الجلالة، وإهانة لصاحبة الجلالة نفسها. قال الضابط الكبير للضابط الصغير: اعتبر هذا أمرًا عسكريًا عليك تنفيذه دون نقاش، امتثل الضابط لأوامر قائده، وأخذ المبلغ وذهب إلى المواطن الهندى وعندما عثر عليه قال له: أرجو أن تقبل اعتذارى، لقد صفعتك ورددت لى الصفعة، وأصبحنا متساويين، وهذه خمسون ألف روبية هدية مع اعتذارى لك. قبل المواطن الهندى الاعتذار والهدية ونسى أنه صُفع على تراب وطنه من مستعمر يحتل أرضه. كانت الخمسون ألف روبية فى تلك الفترة تعتبر ثروة طائلة، اشترى المواطن الهندى بجزء من المبلغ منزلًا، وجزء احتفظ به، وجزء اشترى به «ركشة» (وسيلة نقل أجرة بثلاث عجلات يستخدمها الهنود فى تنقلاتهم)، واستثمر جزءًا فى التجارة، وفى وسائل النقل، وتحسنت ظروفه، وأصبح مع مرور الوقت من رجال الأعمال، ونسى الصفعة، لكن الإنجليز لم ينسوا صفعة الهندى للضابط. وبعد فترة من الزمن استدعى القائد الإنجليزى الضابط الذى صُفع وقال له: أتذكر المواطن الهندى الذى صفعك؟؟ قال الضابط: كيف أنسى؟؟!! قال القائد: حان الوقت لتذهب وتبحث عنه وبدون مقدمات، اصفعه أمام أكبر حشد من الناس. قال الضابط: لقد رد الصفعة وهو لا يملك شيئًا، أما اليوم وقد أصبح من رجال الأعمال وله أنصار وحُراس، فهو لن يصفعنى فقط بل سيقتلنى. قال القائد لن يقتلك، اذهب ونفذ الأمر بدون نقاش. امتثل الضابط لأوامر قائده وذهب إلى حيث الهندى، كان حوله أنصاره وخدمه وحراسه وجمع من الناس، فرفع يده وبكل ما يملك من قوة صفع المواطن الهندى على وجهه حتى أسقطه أرضًا. لم تبدر من الهندى أى ردة فعل، حتى إنه لم يجرؤ على رفع نظره فى وجه الضابط الإنجليزى. اندهش الضابط وعاد مسرعًا إلى قائده. قال القائد للضابط: إنى أرى على وجهك علامات الدهشة والاستغراب؟؟ قال: نعم فى المرة الأولى رد الصفعة بأقوى منها، وهو فقير، ووحيد، واليوم وهو يملك من القوة ما لا يملك غيره لم يجرؤ على قول كلمة فكيف هذا؟ قال القائد الإنجليزى: فى المرة الأولى كان لا يملك إلا كرامته ويراها أغلى ما يملك فدافع عنها، أما فى المرة الثانية وبعد أن باع كرامته بالمال فهو لن يدافع عنها فلديه ما هو أهم منها. أسفى على من باعوا وطنهم وكنيستهم.