رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نرمين يسر تكتب: خيوط رفيعة لا نتبين قوتها

نرمين يسر
نرمين يسر

1
كان تولستوي منذ صيف 1877، وبعد أن نشر رواية أنا كارنينا، يخرج إلى الطريق الرئيسية الذاهبة من موسكو إلى كييف وكان يصادف جمهورا من الحجاج السائرين منذ أسابيع فكان يختلط بهم ويسألهم ويصغي إليهم ويسجل الأمثلة التي تزين حكاياتهم.

قرأت قصة حقيقية من كتابه مجلد "الأمثلة الشعبية" قصة ظلت تطاردني وتصنع الهواجس التي ما لبثت أن استكانت بعد ليلة مؤرقة لنبدأ من جديد،
في قصة تولستوي "الخيوط الرفيعة" يحكى أن رجلا أوصى غزّالة على خيوط ناعمة جدا، لكنه صرح لها بأنه لايفضل هذا النوع التي عرضته عليه وأن الخيوط غير صالحة وأنه يرغب في أرفع الخيوط الممكنة فأجابته الغزّالة بأنه إذا كانت هذه الخيوط غير رفيعة بما يكفي فخذ هذه، أرته مكانا فارغا فقال الرجل إنه لا يرى شىء، عند ذلك ردت المرأة إن كنت لا ترى شيئا فلأن الخيوط بالغة النعومة حتى أنا نفسي لا أراها، سُر الغبي وأوصى على المزيد من الخيوط ودفع ثمنها نقدا.

2
من فيلم خيوط وهمية لممثل الأوسكار المخضرم دانيال دي لويس وإخراج توماس اندرسون، يبدأ الفيلم بمقطوعات من موسيقى البريطاني جوني جريينوود في لقطة متوسطة لامرأة ذات جمال هادئ وبعيد عن الصخب الذي تتميز به الشقراوات، تجلس أمام لهيب مدفأة حيث تكتب الجملة الافتتاحية للفيلم “لقد حول رينولدز أحلامي إلى حقيقة "

ربما يعتقد المشاهدون أن ألما فيكي كريبس سعيدة بتحقق أحلامها على يد رينولدز، ولكن مع متابعة الأحداث التالية للفيلم سوف يتعرفون إلى مأساة عشق من الدرجة الأولى، وأن خيوط رينولدز الوهمية سوف تفلت حبا حقيقيا جاء إلى حياته الجامدة أخيرا، لن تستطيع ألما تغيير نظام حياة الفنان ومصمم الأزياء، لتجد صعوبة في ابتلاع قطعة الخبز المحمص لما يسببه ذلك الصوت من ألم في أذنه من شدة تركيزه في الإصغاء إلى أفكاره الداخلية، تتطور الأحداث بين إيجاب ورفض حتى تحصل ألما على وقت نادر والذي يعد من لحظات صفاء نفس رينولدز، وبين عيش ألما في منزل رينولدز وتبادل الكلمات القاسية فيما بينهما يتجلى الارتباط القوي بينهما الذي يدل على قصة حب عميقة، تلك التي تعلنها ألما ويحجبها رينولدز في صدره الذي يبدو مصنوعا من الخيوط الرفيعة التي على وشك إفلات قلبه من بينها، لم يحدد ذلك الاختلاف حرب الإرادة بين الشخصين الذين لم يخططا لتلك العلاقة منذ البدء وصولًا إلى الاعتراف بالحب الذي كان من المستحيل أن يعترف به رينولدز.

تصنع الما طعام رينولدز بإضافة نوع سام من عش الغراب، غير مميت ولكنه يتسبب في الضعف والمرض، وكلما عانى رينولدز المرض كان أقرب وأكثر احتياجا لوجود الما، باعتبار أنه يعود أدراجه إلى حالته المعتادة بعد أن تساعده الما في الشفاء والتعافي، أعجبتها اللعبة، أرادت تكرارها، إنها اشتاقت فترة ضعفه، ولكن هذه المرة تواطء رينولدز معها في الاستمتاع بوجبة عش الغراب السام، وكأنه اشتاق لضعفه أيضا.

3
بين الحب وغريزة التملك خيط رفيع وإذا تبينته سوف تكتشف فارق كبير، هكذا يقول إحسان عبد القدوس في روايته "الخيط الرفيع" وها هو أحد الخيوط الرفيعة التي تفصل بين عالمين مختلفين تماما قد يبدوان متطابقان.

بين عادل القزم ذو الرأس الكبيرة والوجه النحيل الذى تعلوه نظارات سميكة، الرجل الذى لم ينظر إلى نفسه في المرآة سوى ليربط ربطة عنقه ولم يقف أمام المصور سوى مرات قليلة في حياته، لا يثير غيرة أصدقائه ولا يعجب النساء اللاتي يمررن به مرورا عابرا وكأنه شفاف، بالتبعية لم يفكر في اجتذاب إحداهن، لاشئ مثير في الأستاذ سوى علمه.. إلى أن رآها، يولاند، سمراء ذات شعر أسود ينافس الليل ظلمة، وجسد نحيل منمق، يتناسب مع ملامح وجهه ملائكي.

ما الذي يدفع يولاند للوقوع في حب القزم سوى امتلاكه؟ كما امتلكها عبده بيه بأمواله فامتلكت الأستاذ بجمالها؟ أم أنها شعرت بإنسانيتها بعد أن فقدتها مع عجوز ثري يستغل حاجتها المادية. عند هذه النقطة نجد أنها أيضا امتلكت الأستاذ بأموالها التي اكتسبتها من علاقاتها السابقة واستثمرتها في امتلاك عبقري فذ.

وقت أن شعرت يولاند بانفلات جماح حصانها الفائز من بين أصابعها تحولت إلى كائن شرس يدافع بضراوة عن حق ملكيته للشخص الذي صنع، ذلك عندما تمرد الأستاذ على تحكماتها في حياته، والتي تعتبرها يولاند حياة بدون قيمة لولا تواجدها أم أن الخيط الرفيع هنا هو الذي يفصل بين الأنانية لشخص اعتاد الأخذ من امرأة منحته حياتها فتركها تشعر بالخيبة والإحباط.

ماذا قصد عبد القدوس؟ أن يولاند لم تفرق بين الحب والتملك؟ أم أن عادل لم يفرق بين الأخذ والعطاء؟ وكلاهما يفصل بينهما خيط رفيع لا يُرى مثل خيوط الغزالة الروسية وخيوط رينولدز ؟