رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر باقية.. وهُم زائلون


كتبت عن هذا الموضوع منذ ٣ أعوام تقريبًا، واليوم أشير إليه باقتضاب، فالآن ومن قبل ما زلنا نتذكر النشيد الوطنى الذى كنا نردده كل صباح، وتلك الجملة التى كنا نكررها بعد الدعاء لمصر ونهضتها: «بالاتحاد والنظام والعمل»، وليتنا نعود إلى ذات النشيد، لا كلامًا يردد، ولكن بالعمل المنظم الذى لا يتحقق إلا بوحدة هذا الشعب، أما القول الحق فيقول «كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب، وكل مدينة وكل بيت منقسم على ذاته يخرب».
لذا أُذكر قارئى بأهمية وحدة البيت، أى الأسرة، باعتبارها النواة التى يقوم عليها المجتمع، فإذا كان البيت منقسمًا على ذاته، أى أن الزوجين إذا كانا غير متحدين فى تربية أطفالهما فلا نتوقع أن نرى مجتمعًا سويًا صحيحًا متحدًا، ففاقد الشىء لا يعطيه، فمن فقد فرصة التعلم لا ننتظر منه أن يعلم غيره، صحيح أن لكل قاعدة شواذًا، ولكن الواقع يقول إن من فقد التعليم لا يمكن أن يقوم بتعليم الآخرين.
والصورة التى أمامى هى صورة مصرنا الغالية التى لا يعرف قيمتها إلا من تغرب عنها أو شعوب أمم العالم الذين يحلمون بزيارة مصر ويحسدون سكانها، لأنهم درسوا فى المدارس عراقة المصريين القدماء فى كل مجالات الحياة فمن زاروا أهراماتنا الشاهقة وكيف ارتفعت وعمرت لآلاف السنين، رغم تقلبات الأجواء والحروب، فإنها شامخة ولم تستطع الآلات الحربية وطائراتها أن تهز الأهرامات التى بنيت فى أزمنة لم تكن تعرف شعوبها مواد البناء الحديث.
ومع شديد الأسى والألم، فقد خرج على مصر قوم يعيشون فيها، ولكنهم لا يدرون قيمتها، حتى سمعنا من يكفر بالفنون والعمارة ولو تمكنوا لهدموا وحطموا حضارة مصر ليدمروا تاريخها بدعاوى لا مكان لها فى مجتمعات الحضارة والعلوم والفنون وأمجاد الآباء. أما ما يدعو للحزن ليس فقط لأعداء الفنون، بل لغياب الذاكرة أو ضعفها، حتى خرج علينا من لا يعرف تاريخ مصر قديمها وحديثها، فقد تميز هذا البلد بحسن المعشر وقبول الآخر، وأكاد أجزم بأن شعبها تفرّد منذ آلاف السنين بالكرم الحاتمى قبل أن يولد حاتم بآلاف السنين، وحتى عندما جاءها حاتم تعلم من هذا الشعب العظيم وتاريخه المتفرد ليمارس الكرم وحسن الجوار وحلو المعشر وجمال الحديث.
أما وقد عشنا لنرى ونسمع من يردد المثل العربى «دوام الحال من المحال»، فنسمع لغة الهجاء بدل الغناء والعنف وسفك الدماء بديلًا عن الكرم والوفاء، لنقرأ عن العنف فى داخل الأسرة الواحدة ليقتل الابن أباه أو أمه، ويعتدى على الابنة والشقيقة، ويقتل أقرب المقربين له، فبعد أن كان الهجاء شعرًا رأينا الخلاف سحقًا وقتلًا، حتى امتد العنف اللفظى ليلحق أناسًا يفترض فيهم العلم وحسن الجوار وتبادل المنافع، وإذ بهم يهجون ويهاجمون إخوتهم فى الوطن وفى الحياة والمعشر، فنصبوا من أنفسهم آلهة تدين غيرهم، ظنًا منهم أن هذا الأسلوب سيعيد إليهم البريق بعد أن فاتهم كل رفيق، فلعلهم يعيدون عجلة الزمن فيعود ما فات من أضواء وأجواء، ناسين أن الأرض كروية متحركة فدوام الحال من المحال.
أكتب هذه السطور من بلاد العم سام التى بنيت على التسامح وقبول الآخر، بل وإيواء كل مظلوم ضاقت به دنياه، ليجد فى هذه البلاد مأواه لا فرق بين الأديان ولا بين الألوان، ففيها الأبيض والأسود والأصفر بلا تفرقة، لا يسألونك عن ديانتك ولا مكان للعقائد والأديان فى بطاقات تحقيق الشخصية أو أى مستند آخر، وذلك ليس عن ضعف إيمان ولا عن أقليات عرقية أو مذهبية، بل عن قناعة بأن الدين والتدين علاقة شخصية بين الإنسان وربه، ولا خلط بين العمل الذى هو حق وواجب ومسئولية، والعقائد الدينية أو الفلسفية، فهى بين الإنسان والخالق من قبل، ولكل شأنه حيث لا مكان للإكراه فى الدين الذى اتخذته شعوب أخرى حبرًا على ورق، حيث أقام البعض من أنفسهم آلهة تدين الناس وتوزع الهبات الأخروية، وكأنهم تسلموا مفاتيح الخلود والهاوية، فمن على هواهم إلى النعيم، ومن خالفهم أو طوى صفحتهم فإلى الجحيم.
ليتهم قرأوا أقوال المعلم الأعظم الذى يقول «كل مدينة وكل بيت ينقسم على ذاته يخرب»، إنها الحكمة التى فطنت إليها الشعوب الراقية التى جرمت السب والقذف فى أعراض الناس أو عقائدهم، فوصلت إلى القمر، وغيرهم لم ترتفع أفكارهم أعلى من القبر، وشتان الفرق بينهما، فالقمر مصدر للنور والتنوير، والقبر أبعد ما يكون عن معانٍ للنور أو الاستنارة، ولكونهم أفلسوا فانفض سوقهم يبحثون عن لغات الهجاء شعرًا ونثرًا لعلهم يُعيدون ما ضاع بعوامل الزمان وتغيير المكانة والمكان.
العالم- بفتح اللام- يقدر ويحترم العالم بكسر اللام، ولا مكان للمفلسين أو المقلدين بين المخترعين والمجددين، وقبل أن أنهى هذا المقال ألفت نظر القارئ إلى أن العالم الحديث لا مكان فيه لمبتدعى وسائل التفرقة بين شعوبها تحت أى مسمى، ولو كان احتماءً بالدين حتى بين مواطنيها الأصليين، فحرية العقائد وليس الاعتقاد فقط، كما ابتدعناها نحن فى دستورنا، وقد بيّنا فى أكثر من مناسبة- وفى مقالات سابقة- الفارق الكبير بين حرية الاعتقاد وحرية العقيدة، فحرية الاعتقاد مطلقة، أما أن يمارس الاعتقاد فمكانه غالبًا هو الاعتقال أو ما هو أشبه بذلك.