رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نعيب فرنسا والعيب فينا


أظنك انفعلت عندما رأيت أحدهم ينشر أمورًا مسيئة للرسول، صلى الله عليه وسلم، وأعلم أن الانفعال قد وصل مداه الأعلى عند الشاب الشيشانى الذى ذبح المدرس الفرنسى، عندما قام بعرض رسوم هزلية سخر فيها من الرسول، صلى الله عليه وسلم، انفعل الشاب فلم يفكر، ولكنه اتبع فتاوى مسيئة فما كان منه إلا أن تربص بالمدرس وذبحه ذبحًا وفصل رأسه عن جسده، متصورًا أنه ينتصر بهذا للنبى، صلوات الله عليه.
وفى عالمنا الإسلامى نقف كل يوم بكل قوة وحزم عند أقل إشارة تدل على الحط من قدر المصطفى، صلى الله عليه وسلم، ولكننا فى ذات الوقت ننسى شخصية النبى الحقيقية، ننسى أن الله أرسله ليكون رحمة للعالمين، ننسى أن الله قال عنه: «وإنك لعلى خلق عظيم».
نعم، ألم يكن حليمًا حييًا خفيض الصوت، ألم يتعرض للإيذاء حيًا من المشركين، ألم يتعامل معه بعض صحابته ببداوة فيها غلظة فقال الله جل فى علاه: «إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون»، بل إن رب العزة قال مخاطبًا كبار الصحابة: «يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض».
وعندما كان بعض كبار الصحابة يقتحمون على النبى، صلى الله عليه وسلم، بيته دون استئذان فيؤذيه هذا، أنزل الله قرآنًا قال فيه: «يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبى إلا أن يؤذن لكم» هذا هو محمد بن عبدالله الذى وضع الله فى قلبه الرحمة، فقال عنه: «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك» هذا هو محمد بن عبدالله الذى كان يتعرض لكل أنواع الإيذاء، فلم يرد إلا بالدعاء لمن تعقبوه بالإيذاء.
لا أظن أن أحدًا من المسلمين يختلف مع مقالتى هذه، ولكن هل فعلًا هناك من يستطيع الإساءة إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم؟، أنا أقول: كلا وألف كلا، إذ ليس فى مقدور أحد، مهما كان قدره، أن يسىء إلى الله أو إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، أو إلى القرآن، فليس فى إمكان الأدنى أن يطول الأعلى، والقدرة كما يقول المناطقة لا تتعلق بالمستحيل، وإنما من أساء فإنما أساء لنفسه، ومن أحسن فلنفسه.
ألم يقل الله «من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها»، الذى أساء إنما كتب الإساءة فى صحيفته، ألم يشتم أحدهم أحد الصالحين فرد عليه قائلًا: «هذه صحيفتك فاملأها بما شئت». ليس الله هو إله الإغريق الذى يجلس على جبال الأوليمب تنافسه بعض الآلهة فتحاول التخلص منه، فيحشد جيشًا من عبيده لمحاربة الآلهة الأخرى، ولكن التفاسير الغريبة دخلت على القرآن ففهم البعض أن آية «إن تنصروا الله ينصركم» إنما تعنى أن نحارب الكفار والمشركين وأصحاب الأديان الأخرى حتى تعلو راية «لا إله إلا الله»، هكذا فهمها سيد قطب وغيره.
الله يا أهل الدنيا ليس محاصرًا من الأعداء، وليس ضعيفًا فيستنجد بكم، ولكنه يطلب منكم أن تنصروا الله فى أنفسكم، أى تنصروا دينه ومنهجه على همزات الشياطين، ألم يقل لنا «ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها»، فإذا انتصرت للتقوى التى فى نفسك على الفجور الذى فيها ستكون قد انتصرت لله، وحينها سييسر الله لك سبل الطاعة والتقوى.
الخلاصة أن أحدًا مهما كان لا يملك أن يسىء للرسول، وإن أساء فيكون قد أساء لنفسه، وتبقى مكانة الرسول، صلى الله عليه وسلم، فى قلوبنا تحفها القداسة، ومع ذلك فإننا فى لحظات الضعف الذى أصاب الأمة والانحطاط الحضارى الذى وصلنا إليه، أصبحنا كالخُشُب المسندة نظن كل صيحة علينا، أو كما قال الله تعالى «يحسبون كل صيحة عليهم» لا نملك الثقة فى أنفسنا، أو فى عقيدتنا.
وقد ترتب على هذا بعض المظاهر، فعندما يدخل الإسلام أحدهم ترتفع صيحات التكبير وتعترينا فرحة عارمة، وكأنما بدخول هذا الشخص للإسلام نكون قد أثبتنا صحة الدين، وعندما يخرج من الإسلام أحدهم نرفع راية المؤامرة على الإسلام والحرب التى يتعرض لها، ويبدو الأمر وكأننا دخلنا فى ماراثون بين الأديان أيهم ينال الأكثرية فى العالم فيحصل على الميدالية الذهبية.
والحقيقة أنه يجب أن نضع هذه الأمور فى نصابها الصحيح، فليسلم من شاء، فهذا شأنه هو مع رب العالمين، وليخرج من الإسلام من يشاء، فهذا هو شأنه مع رب العالمين، ولن يصبح دين ما صحيحًا بكثرة أتباعه، ولن يفقد دين صحته بقلة أتباعه، وأنت حين تتعبد لله بدين فإنما يجب أن يكون الأمر إيمانًا لا اتباعًا، وخير لأى دين أن يخرج منه من لا يؤمن به.
ولكن ليس لنا إلا أن نلوم أنفسنا، لا تلوموا الشاب الشيشانى القاتل، لا تلوموا فرنسا ولكن لوموا أنفسكم، فمن ناحية فإن ما قام به هذا القاتل ليس هو ديننا، ليس هو الإسلام الذى نتدين به لله رب العالمين، ليس هو إسلام الرحمة والمحبة والسلام، هذا إسلام آخر لا نعرفه، ولا يعرفه رسولنا الكريم.
ولم يكن هذا القتل من ضمن رسالته، ولكن النفوس المريضة هى التى قدّمت لنا دينًا آخر، وقالت: هذا هو الإسلام!! قدمت إسلامًا لا يعرف إلا السيف والقبر! هذا الإسلام ليس هو إسلام رب العالمين!! ولكنه «صورة مريضة متوهمة عاشت فى نفوس مريضة وانتقلت إلينا عبر السنين» فاعتقد الناس أن هذا هو الإسلام، فافتخر ناس به، وأصبح منهجًا حركيًا لدى بعضهم فأفسدوا علينا ديننا ودنيانا.
وللأسف لم يتصرف هذا الشاب القاتل من تلقاء نفسه أو من فتاوى قدّمها له مجهولون، ولكن هذا الفهم الدموى هو ما استقر عليه عدد من الذين يقال عنهم إنهم «علماء المسلمين» بل إن قتل من يسىء إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، هو من الأمور المستقر عليها فى المؤسسات الدينية كالأزهر مثلًا، وقد صدرت مثل هذه الفتاوى أيضًا من دعاة الإخوان والسلفيين وعلماء الوهابية وأتباع المذاهب الدينية مثل المذهب الحنبلى والمذهب الشافعى وغيرهما.
فالشيخ سامى السرساوى، عضو لجنة الفتوى بالأزهر الشريف، أفتى مؤخرًا بقتل كل من يسىء للنبى، صلى الله عليه وسلم، فى أى مكان ودون أخذ إذن من أى أحد، وقال الشيخ السرساوى وهو يستصرخ الشباب المسلم: أُفتى بقتل كل من شارك بالإساءة للنبى، صلى الله عليه وسلم، ثم أردف قائلًا: أين شباب الإسلام لقتل من سب النبى صلى الله عليه وسلم؟.
ونفس الفتوى صدرت أيضًا من شيخ أزهرى آخر اسمه أحمد عشوش، وهذا الرجل الذى شيّخوه وأطلق على نفسه لقب «أبوإسحاق الحوينى» أفتى بوجوب قتل من يسىء للرسول، صلى الله عليه وسلم، وإن تاب وندم على ما فعل، وقد نقل علماء الأزهر ومدعو السلفية فتوى ابن تيمية التى قال فيها: «إن سب الله أو سب رسوله كفر، ظاهرًا وباطنًا، وسواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلًا له، أو كان ذاهلًا عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل، ويجب قتل من فعل هذا».
ونقلوا أيضًا عن ابن حنبل قوله: «من شتم النبى، صلى الله عليه وسلم، قُتل» فإذا كانت هذه هى فتاوى العلماء، وهذه هى طبيعة الخطاب الدينى الذى يتم تصديره للأمة، فهل تستطيع أن تتهم الشاب الذى صدق هذه الفتاوى واعتبرها دينًا، أم أننا يجب أن نلقى بالاتهام كله على أصحاب هذا الخطاب المتطرف؟.
لذلك بُح صوتنا منذ زمن بأنه آن لنا الآن أن نركز على الخطاب الدينى لأنه هو السبب الرئيسى فى كل المعاناة التى نعانيها حاليًا، يجب أن تقود الدولة المصرية وهى الرأس دائمًا فى كل وطننا العربى والإسلامى ثورة تصحح المفاهيم المغلوطة التى دخلت على الدين وغيّرت مقوماته، ثورة تعيد للدين وظيفته فى الحياة، فالله خلقنا كى نعمر الأرض لا لكى ندمرها، قال لنا فى كتابه الكريم «هو الذى أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها» أى طلب منكم تعميرها وليس تخريبها وحرقها.
نحتاج إلى ثورة دينية نتخلص فيها من نصوص ظن الناس أنها مقدسة لمجرد أنها وردت فى كتب التراث وهى فى الحقيقة من صنع إبليس وأعوانه، نحتاج إلى ثورة تعيد صياغة العقل المسلم من جديد، فليس يقبل مثلًا أن تظل الفتاوى المفزعة تطل برأسها علينا كل حين، فتحوّل حياتنا إلى حرب مستمرة مع طواحين الهواء.