رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القهر ضار جدًا بالصحة ويؤدى إلى الوفاة


وقفت المذيعة التى تتخفى وراء حجاب من المساحيق والرموش الصناعية والعدسات اللاصقة الملونة وصبغة الشعر الصفراء، تعظ الشباب فى برنامج تليفزيونى عن مضار التدخين قائلة: «أيها الشباب.. لا تدمروا أنفسكم بالتدخين، مجتمعكم يحتاج إليكم».
هذه الموعظة التى وجهتها المذيعة إلى شبابنا للإقلاع عن التدخين يتضامن حولها العديد من الهيئات والجهات والجمعيات المحلية والدولية.
وهناك اليوم العالمى للإقلاع عن التدخين، وهناك التحذيرات من التدخين فى الحجرات المغلقة وأماكن العمل والتجمعات المزدحمة، وهناك حملة لعدم بيع السجائر لمن هم أقل من 18 سنة.
كل هذا جميل، ولا يمكن بأى حال من الأحوال أن ينكر إنسان ما تلك الجهود أو يعارض الإعلام فى مضار التدخين، أو كيف أنه انقرض، أو يكاد ينقرض من الدول المتقدمة، وما زال منتشرًا فى الدول النامية، حيث تشكل الدول النامية السوق الأساسية لبيع السجائر.
ولكن القضية ليست بهذه السهولة، إن إقبال الشباب والشابات على التدخين، رغم علمهم بمضاره، وما يسببه من أمراض تؤدى إلى الوفاة، يدلنا على وجود خلل ما، نحن مع ظواهر حياتنا المختلفة، لا يجب أن نكتفى بالإشارة إلى النتائج والقشور الخارجية، وتقديم المواعظ الأخلاقية، والتحذيرات والتعليمات، لا بد من مواجهة الأشياء من جذورها.
الشباب يدخن، لأن هناك من «الدوافع» النفسية والاجتماعية، ما يجعله يقبل على سيجارة تدمر الصحة وتقصف العمر، وسوف تظل عادة التدخين منتشرة بين الشباب، طلما أن هذه الدوافع النفسية والاجتماعية باقية دون تغيير.
إن الشاب الذى يشعل سيجارة رغم علمه بمضارها، إنما يشعل فى الوقت ذاته رغبته فى إحراق إحباطاته وقهره، والفتاة التى تشعل سيجارة، رغم علمها بمضارها، تشعل الحنين المكبوت للتحقق الإنسانى والعاطفى والعملى، لا أحد يتكلم عن إحباطات وقهر الشباب والشابات فى بلادنا، شباب تائه، ضائع، متجهم، متوتر، شباب لا حاضر له، ولا مستقبل يعده بالعمل أو التحقق، أو المشاركة فى صنع أى قرار سياسى أو اجتماعى أو ثقافى أو دينى، والمفارقة المحزنة أن هؤلاء الشباب والشابات، هم الوطن المنتظر كل حبة عرق، وكل أصول الانتماء، ويمكنهم أن يتحولوا من البناء إلى الإرهاب، أو قنابل موقوتة تحرق الأخضر واليابس.
إنه المنطق نفسه مع قضايا أخرى عديدة فى مجتمعاتنا، أبرزها برامج وإرشادات وحملات تنظيم الأسرة فى الريف والمدينة، إنها حملة قومية لن تنجح إلا مع الناس الذين انتفت لديهم دوافع الاحتياج إلى أسرة كبيرة ممتدة بالفعل، إن الفقر وافتقار الضمانات الاجتماعية والتأمينات الصحية، خاصة فى الريف، تجعل من الأطفال موردًا اقتصاديًا فى الحاضر، وسندًا اجتماعيًا فى المستقبل، ليست مصادفة أن تنظيم الأسرة يوجد إما فى البلاد المتقدمة أو بين قطاعات الأفراد الذين ارتفع مستوى دخولهم ومعيشتهم، وأصبحت لديهم بالتالى طموحات وأحلام للاستمتاع بالحياة، لا تتوافق مع المسئوليات والقيود التى تفرضها الأسرة كبيرة الحجم.
لو كنا حقا نريد للشباب الإقلاع عن التدخين فعلينا أن نوقف سيل المواعظ والتحذيرات، ونوجه الاهتمام إلى «تمكين» الشباب من تحقيق أحلامهم فى الحاضر والمستقبل، وإعطائهم الفرص الحقيقية لإثبات ذواتهم فى العمل والتفكير، والنقد والإبداع.
وهذا «التمكين» غير ممكن، إلا مع مناخ الحرية، والقضاء على كل أشكال القهر الذى يخيم على شبابنا وشاباتنا.
فالقهر ضار جدًا بالصحة، أكثر من ضرر التدخين، ويؤدى الى الوفاة، تمامًا مثل المواد التى تصنع منها السجائر، إن الشاب المتحقق يخاف على صحته وعلى عمره، وعلى شبابه، والشابة المتحققة تخاف على صحتها وعلى عمرها، وعلى شبابها.
لكن الشابة المقهورة، أو الشاب المقهور على كل المستويات، ليس لديه «دافع» قوى للحفاظ على نفسه، وعلى حياته، ويصبح من السهل أن يقع فريسة «التدمير الذاتى» الذى يقوم به، تجاه نفسه وجسده.
حين يحس الإنسان بالقهر والإحباط خاصة فى سن الشباب، تنحرف طاقته نحو مسارات انحرافية متعددة، وفى حالة مثل التدخين، تتحول الطاقة التدميرية نحو «الذات»، فالجسد هو أقرب شىء للإنسان، وهو الشىء الوحيد الذى يملكه، أو يتوهم أنه يملكه فى عالم يجرده من كل شىء، وهذا الوهم بملكية الجسد له مصداقية أكبر فى حالة الفتاة، أو المرأة، فحقيقة أن جسد المرأة هو وسيلة لإنتاج البشر، فعلى المجتمع، أن يخلق من المحظورات والقوانين والمحرمات، التى تتحكم فى هذا الجسد الذى يخلق البشر، والقوة العاملة، ويحمل مهمة استمرار البشرية، وحفظ المجتمعات من الانقراض أو الانكماش.
إن العادات «السيئة» المضرة بصحة الإنسان، وجسمه، مثل عادة التدخين، أو العادات الغذائية الخاطئة، التى تنتج عنها السمنة المفرطة، كلها نتائج طبيعية لشعور الإنسان بدرجات وأشكال مختلفة من القهر، وعدم التحقق الإنسانى والعملى والعاطفى.
إن «الريجيم» القاسى، المستمر، الذى تفرضه النساء والرجال على أنفسهم، يخفق على المدى الطويل فى تحقيق «الرشاقة» المطلوبة، فـــ«الرشاقة» هى أساسًا «نمط للحياة» يؤدى إلى السعادة والتحقق المتكامل لكل متطلبات، واحتياجات الشخصية، وليس مجرد «نمط غذاء».
إن الإنسان السعيد المتحقق، لا يفرط فى الأكل، ولا يدخن، ولا يقبل على أى شىء ينال من صحته، الجسم السعيد المتحقق يلفظ «النيكوتين»، والجسم السعيد المتحقق، لا يأخذ من الطعام إلا احتياجه، والجسم السعيد المتحقق، لديه مناعة قوية ضد أخطر الأمراض والفيروسات، والجسم السعيد المتحقق والنفس السعيدة المتحققة، نتاج مجتمع سعيد، سوى، وصحى.. وهذا ما لا يتحقق فى عالمنا المعاصر.