رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أمومة مصلوبة «2»



أريد أن أكون بجوارها، لديها القدرة على إشعارى باحتياجها إلىّ.. وكأن عالمها لن يكون.. سيتوقف بدونى.. أو على أقل تقدير سيقع به خلل كبير.. أفترض عبارات وأصدقها وأتعايش فيها ومعها، كأنها حقيقة يقينية، وهل كنت أبحث عن يقين؟ أم كنت أهرب طوال الوقت؟
كنت أهرب من القيود.. من التصورات المرسومة عنى.. كان وجودها ملتهبًا، صاخبًا، مقلقًا، كنت أتوق إلى حركته بدلًا من سكون عالمى، اعتقدت أنها الحيوية المتدفقة.. النار الباعثة للحياة، مع عمق اقترابى وطول التدانى أصبت بالدوار من العشوائية، من الفوضى، فوضى الأفعال، رغم حبك الشديد للنظام والترتيب، ولكنك ترتبين الأشياء، الأشياء الجامدة تسيطرين على ما هو مسيطرٌ عليه أصلًا، مجرد رغبة فى السيطرة والتحكم، فى حين لا تبالين بقراراتك المتضاربة واختياراتك العشوائية فى الدراسة، الحب، الطعام، الملابس، نظامك، ترتيبك الدقيق المموه يخفى سرًا، حقيبة يدك، مفاتيح دولابك التى لا تضيع، تنظيم محفظة النقود، كلها غطاء لسر عميق.. لكنى لم أتوقع خيانتها.. هذه ليست خيانة.. لم أجبرها على أن ترتبط بى، ولم يكن هناك ما يلزمها، قطعت العلاقة بعالمى، وهى كانت شاهدًا على الصراع الكبير بينى وبين أمى.. بينى وبين آبائى.. كل أصدقائى.. رفاق مدرسة الأحد..
مسيحيتى كانت جلدى، وأنا سلخت هذا الجلد ومعه انتزعت أجزاء من لحمى من شرايينى.. وهى من شحذت السكين
- أنا أحبك..
- أعرف، ما الجديد؟
- أريد أن نرتبط.
ضحكت كأننا نهرج أو الكلام العادى.. ما ينفعش لازم تسلم الأول.
- هعلن إسلامى.
بطل تهريج.. هى المشرحة ناقصة قتلى.
صمت، أكملت هى
- أنت أهبل، وبعدين هتعمل إيه بالإسلام؟ ولا الإسلام هيعمل لك إيه؟
يصيح بى أصدقائى: كيف تترك ملكوت الرحمة وتذهب للقسوة، للغلظة، للعنف؟
هى واضحة فيما تريد وأنا الغافل الكبير، كل الأوراق مبسوطة على المائدة فقط على أن أنتبه.. أحسن فهم الكلمات والعبارات لمعرفة حقيقة مشاعرها.
- لا أريد الزواج.
- لا تريدين الزواج فى المطلق؟ أم لا تريدين الزواج منى؟
- علاقتنا لطيفة، لماذا نعقدها بالزواج؟ ولم تنتبه لحقيقة شعورها عندما قالت:
- تعرف أنت ناصح جدًا.. الإسلام دين ذكورى بامتياز.. كل المزايا للرجال.
لا يمكننى التأكيد أن حبى لها هو السبب فى إسلامى.. كما أنها لم تكن متدينة.. لم تكن حريصة على أداء الشعائر الإسلامية.. هل يختار الإله الإنسان الصالح لأنه صالح؟ أم أن الصالح صالح لأن الإله اختاره؟ من هو الصالح؟ تصرخ أمى لم تعد صالحًا، كيف تترك الصالح؟
أمى حزينة مكلومة، تحاول أن تنقذنى من فم الأسد الذى أضع روحى وجسدى فى فمه، تحارب الأفاعى التى تسحبنى بنعومة إلى الجحيم، غريب أمر النساء! أم هو غريب قلب الأم! تبدو النساء الأكثر تدينًا والأكثر تشددًا فى الدين.. النساء يسهرن على رعاية الإله، كما تسهر الأمهات على رعاية أطفالهن، ينفضن عنه الغبار بمسحتهن، لو لم يكن هناك إله، الأمهات كن سيخترعن إلهًا.
يريد الرجال إلهًا يستمدون منه نفوذًا وسيطرة على الآخرين، وتريد النساء إلهًا كى يستمر دورهن فى الخلق والرعاية والحماية.
أمى معلمة، تنظر للناس على أن بهم شيئًا ناقصًا، وهى تقبلهم، كما هم، وتكرس نفسها لجبر هذا النقص، يبدو لى أن أمى أكثر وعيًا من أبى، حتى وإن بدت أكثر خضوعًا وطاعة لطقوس إلهها، هى حاذقة، ماهرة فى لعبة الاختيارات.. اختارت الإله الذى يمنح ويمنع ويسير كل شىء، هى ركنت لوالدى الدعة، استراحت من تبعات أفعالها وتحمل عواقبها بإحالتها دومًا للكائن الأعلى.
وأنا اخترت التيه.. لكن هل يحتاج الإنسان إلى كل هذه الطقوس كى يصل إلى الله؟ هل نحتاج حقًا إلى وجود إله؟.. كائن أسمى يحل كل معضلات الضعف والتهاوى؟ الفناء والعدم الذى نسير حتمًا إليه.
توجه أمى أصابع الاتهام لأبى، قد يكون ما يحدث لابن قلبى، عقابى لصمتى على عدم التزامك بالذهاب لكنيسة.
يذهب أبى، يشارك، لكن.. دون حماسة.. دون هوس.. دون دعاء أو حاجة لمعجزة..أن تطلب معجزة يعنى أن تطلب من الرب أن يعطل قوانينه.. لم يكن أبى يدعو بشىء أو ينتظر شيئًا.. المخطط سيسير كما هو مرسوم، نحن فقط ترس، كلماته تخيفها، فيزداد تمسكها بصليبها من أجل خلاص كل المقصرين فى العالم.