رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأتراك من الإستبس للأناضول «الاستعداد للحرب»


تركيا هى العنصر الرئيسى المحرك للاضطرابات وعدم الاستقرار وتصدير المرتزقة والإرهابيين إلى كل دول الإقليم، من القوقاز حتى الشرق الأوسط، من شرق المتوسط إلى شمال إفريقيا، ومن الحدود الغربية التركية أو عبر السواحل الليبية إلى أوروبا، متشحين برداء الهجرة غير الشرعية.. أمر غير معتاد أن تثير دولة فى عالمنا المعاصر كل هذا القدر من «القلق».. ما جذور تلك العدوانية المفرطة؟ وما أهدافها؟ لماذا تستهدف مصر دائمًا؟ وما مستقبل المواجهة بين أنقرة والقاهرة؟.. تساؤلات بالغة الأهمية تفرض التدقيق فى التناول، لأنه أمر يهم كل مواطن مصرى، فى معركة ميدانها «الوعى»، بنفس قدر أهميته لجهات الدولة السيادية وإعلامها الجماهيرى.

تحليل الأوضاع التركية بنفس منهجية تناول نظيرتها المصرية ينطوى على خطأ فادح، نبه إليه العالم الجيوسياسى الدكتور جمال حمدان، عندما أكد أن «التناقض الاستراتيجى بين مصر وتركيا يرجع إلى انطلاق الحضارة المصرية القديمة من العقول المستقرة على ضفتى وادى النيل، بينما انطلق الأتراك من قبائل رُحّل، قادمة كقوة شيطانية من الإستبس، استوطنت الأناضول بلا حضارة، لكنها تطفلت على غيرها، وغيرت جلدها وكيانها أكثر من مرة؛ فاستعارت الشكل العربى ثم بدلته بالشكل اللاتينى».. حمدان وصف الأتراك بأنهم «همج، يحاربون بعضهم من أجل الكلأ والمرعى».. ففى عام ١٤٠٢ أظهروا بربريتهم حينما اتجه تيمورلنك- الذى ينتمى إلى القبائل البدوية التركية فى أوزباكستان- إلى الأناضول لينتصر على العثمانيين فى معركة أنقرة، ويأسر قائدهم بايزيد الأول.. السلوكيات البوهيمية انعكست أيضًا على تعاملات الأتراك داخل الأسرة الواحدة؛ وذلك بصورة مخجلة؛ فالسلطان الغازى سليم الأول، مصدر فخر الأتراك، استعان بالانكشارية والمرتزقة فى الحرب على أبيه، عندما علم أنه قد أوصى بالعرش لابنه وليس له، وقتل إخوته وأولادهم جميعًا عام ١٥١٢، حتى لا ينازعوه فى تولى الحكم.

السياسة العدوانية التى تتبعها تركيا فى الوقت الراهن، دأبت عليها مع الدول والحضارات المجاورة لها عبر التاريخ.. فى كتابه «استراتيجية الاستعمار والتحرير» أبرز حمدان، دور البرابرة الأتراك فى إسقاط الدولة العباسية خلال القرن الحادى عشر، حيث انتزعوا فارس وما جاورها، ثم بدأت قوات السلاجقة الوافدة من آسيا تقتطع أجزاء من الدولة العباسية، فأقاموا قاعدتهم فى كرمان وهمدان ثم فى آسيا الصغرى، وامتد سلطانهم إلى الشام والأراضى المقدسة فى فلسطين، واحتلوا فى طريقهم بغداد ودمشق، قبل تفكك دولتهم باجتياحات قائد المغول جنكيز خان فى القرن الثالث عشر.

«الأتراك السلاجقة» فى الشام كانوا حديثى عهد بالإسلام، تجاوزاتهم فى حق «الذميين» حول بيت المقدس كانت خروجًا عن تعاليم الدين الصحيحة، ومبادئه الأخلاقية السامية وروحه الطيبة المُتسامحة، وكانت مبررًا لشن حملة صليبية أوروبية، بذريعة مواجهة هذا التشدد.. الأتراك كانوا وما زالوا مصدر وبال على دول المنطقة.. وفى الوقت الذى كان فيه العالم الإسلامى يواجه الصليبيين، خرج تيمورلنك من سمرقند فى «أوزباكستان» ليكتسح بلاد فارس والعراق وشمال سوريا حتى دمشق، لكنه عجز عن التقدم جنوبًا بفضل المقاومة المصرية.. المؤرخ الإنجليزى الشهير فيليب مانسيل، فى كتابه «القسطنطينية»، أشار إلى انتقال الأتراك العثمانيين إلى أوروبا عام ١٣٥٢م للعمل كمرتزقة للإمبراطور يوحنا كانتاكوزينوس فى الحرب الأهلية البيزنطية، وبعد سقوط القسطنطينية بأيديهم عام ١٤٥٢ أمر السلطان العثمانى باستعباد ٣٠ ألف مسيحى، وأعمل السيف فى آلاف غيرهم.. وهى نفس الأدوات التى لا تزال تركيا تستخدمها حتى الآن.

تركيا ككيان لدولة لا يتجاوز عمرها ستة قرون «١٤٥٢- ٢٠٢٠».. نظامها السياسى الحديث نتاج لهزيمة الإمبراطورية العثمانية فى الحرب العالمية الأولى، وما فرضه الحلفاء من شروط ساعدت على ظهور مصطفى كمال المعروف بأتاتورك.. الذى ناشد الحلفاء دعم انقلابه على الخليفة العثمانى، والاعتراف به ممثلًا لتركيا، ما اضطره لتنازلات سياسية جوهرية.. اعترف بحق فرنسا فى شمال الشام، وقام بترسيم الحدود مع سوريا، كما تنازل لروسيا عن المناطق المتنازع عليها.. موسكو أمدته بالسلاح لطرد اليونانيين من إزمير.. ولندن ضغطت على الخليفة العثمانى فتنازل عن العرش وتم إبعاده خارج البلاد، ثم أُلغيت السلطنة وأصبح «أتاتورك» قائدًا.. معاهدة «سيفر» تمثل عقدة للأتراك، لأنها ألغت «الخلافة»، معظمهم يأمل فى سقوط فاعليتها القانونية، وحجيتها على الدولة بحلول ٢٠٢٣، حتى تتمكن تركيا من إنهاء القيود المفروضة على تحركاتها الإقليمية، والسعى لاسترداد بعض الأملاك التى أُجبرت على التنازل عنها.

أردوغان أحدث تغييرًا جذريًا فى السياسة الخارجية، فقد انفصل تدريجيًا عن نموذج السياسة الخارجية لأتاتورك الذى يتمحور حول الغرب الأوروبى، وتبنّى سياسة مرنة تستلهم أهدافها ووسائلها، مما أصبح يطلق عليه «العثمانية الجديدة»، وسعى للتمدد بدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا سعيًا لتحويل تركيا إلى قوة عظمى.. لكن ولاءه العقائدى لتنظيم الإخوان المعادى للجيوش الوطنية دفعه لارتكاب خطأ فادح عندما جرّد الجيش التركى من صلاحياته، بمحاكمات «إرجينيكون» التى استمرت من ٢٠٠٨ حتى ٢٠١١، وانتهت بسَجن ما يقرب من ربع جنرالات الجيش، بتواطؤ من النيابة العامة والشرطة اللتين تمت أخونتهما عقب إجراء استفتاء عام ٢٠١٠، الذى منح أردوغان صلاحية تعيين معظم قضاة المحاكم العليا.. خلال صيف عام ٢٠١١، قدم كبار ضباط الجيش التركى استقالة جماعية احتجاجًا على ذلك.

فى أعقاب فشل محاولة انقلاب ٢٠١٦، قامت عناصر الشرطة والمخابرات الموالية لأردوغان بضرب وإذلال جنود وضباط الجيش، ما أثار سخط الجماهير، بمن فيهم المعارضون للانقلاب، لأنهم رأوا فى ذلك إضرارًا بمكانة الجيش واحترامه وتماسكه وقدرته على مواجهة المخاطر الخارجية.. ورغم تفكيك أردوغان الجيش وإهانته، إلا أنه، ضمن احتفالات تركيا بالعيد القومى هذا العام ٢٠٢٠، أكد تصميمه على أن يأتى عام ٢٠٢٣، وتركيا دولة قوية لا تتنازل عن حقوقها الإقليمية.. رافعًا شعار «استراتيجية إعادة تصحيح التاريخ»، للتخلص من آثار معاهدتى «سيفر» ١٩٢٠ و«لوزان» ١٩٢٣، والتى كان أبرزها إنهاء وجود الإمبراطورية العثمانية.. والحقيقة أن ذلك ينذر بأحداث جسام على مستوى المنطقة.

لم يتسع المجال لتناول عقدة تركيا التاريخية من الجيش المصرى، أسبابها ونتائجها، قديمًا وحديثًا.. ذلك موضوع مقال الجمعة المقبل إن شاء الله.