الأبعاد الديموجرافية والاقتصادية لتعديل قانون التخطيط الأسري في الصين
يشير إعلان الحكومة الصينية تخفيف القيود المفروضة على نمو السكان- من خلال انتهاج ما عرف باسم "سياسة الطفل الواحد" لمدة 34 عامًا إلى أن هذه السياسة الهادفة إلى الحد من تزايد عدد سكان أكبر دولة في العالم قد أثمرت عن نتائجها المرجوة من جانب، وأنها خلقت معها بعض المشكلات من جانب آخر.
وكان الحزب الشيوعي الصيني قد اتخذ قرارًا يوم 15 نوفمبر الجاري - خلال اجتماع المركزية للحزب - الذي خصص للإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، بتعديل قانون التخطيط الأسري من خلال التخفيف الجزئي لسياسة تحديد النسل التي لا تسمح للأسرة سوى بإنجاب طفل واحد منذ عام 1979، حيث أصبح القانون يسمح الآن للأسرة الواحدة بإنجاب طفلين إذا كان أحد الوالدين طفلاً وحيدًا لدى أسرته.
وقد أثمرت سياسة الطفل الواحد في العقدين الماضيين عن تأسيس هرم سكاني أمثل للنمو الاقتصادي الصيني، حيث لم تكن القطاعات السكانية الأكبر في الصين من صغار السن أو من الكبار، بل كانت الأغلبية تقع ضمن الفئة العمرية في سن العمل. وعلى الرغم من وجود إعفاءات متعددة لسياسة الطفل الواحد، إلا أن معدل نمو السكان في الصين قد انخفض من 4.77 طفلا لكل أنثى في سبعينيات القرن العشرين إلى 1.58 طفلا في عام 2012، وهو ما ساعد على حشد أكبر في قوة العمل الشبابية وإحداث قدر كبير من التوازن بين النمو السكاني والنمو الاقتصادي.
بيد أن هذه السياسة قد أنتجت كذلك بعض الظواهر الاجتماعية التي أصبحت سلبية وخطيرة؛ لتضطر الحكومة الصينية إلى التخفيف من تلك السياسة، حيث نتج عن إنجاب الأسر لطفل واحد انتشار ظاهرة وأد النبات سرًا من جانب، وزيادة أعداد الشباب الذكور البالغين غير القادرين على العثور على عروس بسب نقص أعداد الفتيات من جانب آخر، وهو ما يمثل قنبلة اجتماعية موقوتة في الصين.
ووفقًا لرئيس معهد أبحاث السكان في واشنطن" ستيفن موشر"، فإن ثمة حوالي 25 مليون شابًا في الصين لا يمكنهم العثور على عروس، إذ تشير التقديرات إلى أن معدلات أرقام الرجال إلى النساء في الصين تبلغ 117 رجلا لكل 100 امرأة، كما تشير بعض التقديرات إلى أن عدد الشباب الذكور البالغين غير القادرين على العثور على عروس سوف يرتفع إلى أكثر من 30 مليون حتى عام 2020، وقد نوهت إحدى البرامج التليفزيونية الصينية إلى هذه الظاهرة، حينما أشارت إلى تضاؤل فرص الشباب المؤهلين للزواج في العثور على عروس مؤهلة للزواج نتيجة للعديد من التغيرات الاجتماعية والسكانية داخل الصين في العقد الأخير.
تاريخيًا، لدى الصين سجل سلبي لهذه الظاهرة الاجتماعية السلبية، أي عدم وجود أعداد كافية من الفتيات في سن الزواج، يعود إلى متصف القرن التاسع عشر، فحينما دمر اثنان من الفيضانات الهائلة مناطق واسعة في شمال شرق الصين وانتشرت المجاعات في تلك الفترة، تفشت ظاهرة "وأد البنات" بسب هذه المجاعات، وذلك وفق ما كتبه اثنان من كبار علماء السياسة العالميين، وهما فاليري هدسون وأندريا دن بوير، وأضحى هناك 25% من الشباب البالغ في هذه المناطق غير قادر على العثور على زوجة، في ظاهرة أطلق عليها الصينيون حينذاك "الأغصان العارية"، للتعبير عن عدم قدرة الشباب على تكوين أسرة وتحقيق رغباتهم البيولوجية والاجتماعية، وهو ما أدى إلى تكوين مجموعات شبابية خارجة عن إطار القانون عرفت باسم "نين" عاثت فسادًا في الاقتصاد الصيني بهذه المناطق ثم تحولت إلى ما عرف باسم "حركة تمرد نين" التي نتج عنها حرب أهلية أنهت حكم أسرة "تشينج".
وعلاوة على هذه المشكلة الاجتماعية، فإن الصين أضحت تعاني من مشكلة أخرى هي نقص العمالة الصينية، حيث بدأ الانخفاض في عدد السكان ممن هم في سن العمل للمرة الأوى في عام 2012، حتى إن نكتة شائعة بالصين تقول: "سوف تكون الصين هي أول بلد في العالم لديها أكبر عدد من كبار السن الذين لن يصبحوا أبدًا من الأغنياء"، إذ تشير الأرقام حاليًا إلى أن هناك 8.5% من سكان الصين (114.8 مليون نسمة) من بين مجموع السكان الذي يبلغ 1.35 مليار نسمة، فوق سن 65 عامًا، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى حوالي 24% في عام 2050 ليبلغ 300 مليون نسمة.
وفي الوقت الذي تحاول فيه السلطات الصينية الحد من هذه المخاطر الاجتماعية لقانون الطفل الواحد ممثلة في نقص فرص زواج الشباب البالغين، والمخاطر الاقتصادية ممثلة في نقص أعداد السكان في سن العمل، فإن ثمة تحديات أخرى سوف تنتج عن تخفيف هذه السياسة، كما يرى بعض المراقبين، ومن أبرزها أن زيادة أعداد المواليد ستقود إلى المزيد من الطلب على إمدادات مياه الشرب الشحيحة في الصين، حيث يبلغ متوسط استهلاك الفرد الواحد من المياه 22 جالونًا من المياه يوميًا وذلك مقارنة بـ 150 جالونًا للفرد، في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال، وذلك في وقت لا تزال فيه الزراعة تمثل أكبر قطاع يستهلك المياه والذي يترواح بين 60% إلى 70% من موارد المياه العذبة سنويًا في الصين، كما ساهمت زيادة نسب التحضر وارتفاع أعداد الطبقة الوسطى إلى زيادة مماثلة في كل من الطلب على مياه الشرب والصرف الصحي على مستوى كل البلديات الصينية؛ مما أحدث بعض الاختلالات في الطلب والعرض على المياه في العديد من المناطق الزراعية، الأمر الذي أدى بدوره إلى زيادة أسعار السلع الغذائية.
ويتوقع أن تزداد المشكلات المتعلقة بتوفي مياه نظيفة في حالة تنفيذ الصين خطتها الهادفة إلى تحويل 250 مليونًا من المزارعين إلى المدن - خلال الأعوام السبعة - المقبلة، حيث يتوقع أن تتنامى احتياجات هذه الملايين من المياه بنسبة كبيرة.
من جانب آخر تلعب المياه دورًا أساسيًا في قطاعات صناعة الطاقة الصينية، من الحفر والاستكشاف والتعدية و التكرير والمنتجات الكيماوية، فوفقًا لمعهد ستراتفور العالمي، فإن إنتاج الطاقة المحلية في الصين، وخصوصًا من الفحم، يستخدم حوالي 13% من المياه في الصين، وتعتبر هذه المشكلة أكثر حدة في المناطق التي تعاني من ندرة المياه في شمال غرب البلاد، حيث تقع معظم أماكن إنتاج الفحم والغاز الطبيعي المحلي.
ويعتقد بعض المحللين الاقتصاديين أن الصين تواجه حاليًا تحديات ديموجرافية مشابهة لتلك التي واجهت اليابان منذ عقدين من الزمن، حيث كان الاقتصاد الياباني يواجه مشكلة عمالة قريبة من تلك التي تواجهها الصين حاليًا بين منتصف وأواخر الثمانينيات، حتى انفجرت مشكلة تقلص أعداد من هم سن العمل في عام 1991، مع انهيار الملكية المشتركة وتراجع سوق الأوراق المالية، لكن اليابان كانت في هذا الوقت دولة غنية حين انفجرت هذه المشكلة الديموجرافية، أما الصين فلا تزال بلدًا فقيرة أو متوسطة في أحسن الأحوال.
أخيرًا يمكن القول إن تخفيف سياسة الطفل الواحد في الصين يمكن أن تقود في نهاية المطاف إلى إعادة التوازن للاقتصاد الصيني وتوجيهه نحو العمالة المحلية وزيادة الاستهلاك المحلي، لأن الناس الأصغر سنًا، يميلون بطبيعة الحال إلى إنفاق دخلهم بمعدلات أكبر كثيرًا من كبار السن، لكن الفوائد المتوقعة من هذه السياسة سوف تستغرق وقتًا طويلاً نسبيًا حتى تترك تأثيراتها الإيجابية على تركيبة السكان - خلال المرحلة الانتقالية الفاصلة- ما بين سياسة الطفل الواحد التي أثمرت من جديد ظاهرة "الأغصان العارية" وما بين التحديات التي ستواجهها الصين حتى يعود التوازن الديموجرافي مجددًا.