رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يوسف نبيل: يخون المترجم عندما يحذف أو يضيف وإبداعه مرهون بغيابه عن النص

يوسف نبيل
يوسف نبيل

أنجز الكاتب والمترجم يوسف نبيل٬ الجزء السادس من "اليوميات" للروائي الروسي ليو تولستوي٬ والذي قدمه من الروسية مباشرة. حول مشروعه وحكايته مع الترجمة٬ وصعوباتها والفارق بين المترجم الذي يمارس الكتابة٬ والمترجم الوظيفي البحت كان لــ"الدستور" هذا اللقاء معه.

ــ بداية حدثنا عن حكايتك مع الترجمة٬ تحديدا ما الوازع وراء عملك بالترجمة ؟

يعود الأمر إلى بداية تعرفي بالأدب الروسي في المرحلة الثانوية. منذ أولى قراءاتي لأعمال دوستويفسكي وتولستوي قررت أن أصبح مترجمًا لهذا الأدب. دخلت كلية الألسن قسم اللغة الروسية رغم أن مجموعي كان يسمح لي بدخول أي كلية أريدها تقريبًا 98 %. أدى سوء مستوى الدراسة الشديد بالقسم وقتها إلى شعوري بصعوبة تحقيق هذا الحلم، كما تعطلت بسبب دخولي الجيش 3 أعوام (ضابط احتياط). أنهيت فترة التجنيد وعملت لعدة سنوات في أعمال ليس لها علاقة بالتخصص، ثم راودني الحلم مجددًا، فعدت لدراسة الروسية والإنجليزية، وبدأت بترجمة بعض الأعمال عن الإنجليزية قبل أن أتخذ القرار بالعودة إلى الروسية مجددًا.

ــ أنجزت مؤخرا ترجمة يوميات تولستوي في ستة أجزاء٬ حدثنا عن المشروع وما يعنيه لك ؟

أول مرة اطلعت على حجم هذه اليوميات بالروسية أبعدت الفكرة عن ذهني تمامًا. كمية مهولة من المواد، تحتاج إلى جهد فائق ومغامرة إنتاجية محفوفة بالمخاطر من قِبل الناشر. كانت الفكرة في البداية أن نترجم تراث تولستوي الفكري، حيث أننا في العربية نعرفه في الغالب كأديب وحسب، ولم نطلع على أعماله الفكرية بصورة كافية. ترجمنا ثلاثة كتب فكرية لتولستوي، ثم سألنا أنفسنا: وماذا بعد؟ درسنا مشروع اليوميات مجددًا. عرفت من البداية أنه قد يكون أحد أهم المشروعات التي سأقبل عليها في حياتي، وتصورت أنه سيضيف لي بشدة. الأمر كذلك بالنسبة لدار آفاق، حيث فكر مديرها: مصطفى الشيخ، ومستشارة النشر: سوسن بشير أن هذا المشروع قد يكون من علامات آفاق البارزة في النشر. وضعنا خطة زمنية نجحنا سويًا في إنهاء العمل قبل أن تنتهي بمدة، وإلى الآن أنظر أنا والناشر إلى الأجزاء الستة أمام أعيننا ولا نصدق أننا اتخذنا هذا القرار فعلا ونفذناه في مدة زمنية بسيطة بالنسبة لحجمه والمجهود الهائل المبذول فيه. ترجمت الأجزاء الستة في 17 شهرًا، ونُشرت الأجزاء كاملة خلال 14 شهرًا تقريبًا.

ــ كيف ترى ظاهرة انتشار ترجمة الأعمال الكلاسيكية والتي ترجمت من قبل٬ بل وأن العنوان يترجمه أكثر من مترجم٬ وفي الأغلب تكون ترجمات شديدة الرداءة٬ وبماذا تفسر هذه الظاهرة؟

أتفهم الأمر إن قدمت الترجمة إضافة؛ مثلا تكون الترجمة الأولى عن لغة وسيطة والترجمة الجديدة عن اللغة الأم، أو أن الترجمة الأولى كانت سيئة وتجارية بينما الجديدة ترجمة احترافية مبدعة. ولكن ما يحدث الآن ليس من تدبير المترجمين في الغالب، بل هو استسهال شديد من دور النشر. ثمة كتب تضمن تحقيق مبيعات قوية: روايات دوستويفسكي مثلا، وبعض روايات أورويل... إلخ. يود كل ناشر أن تكون لديه طبعات خاصة به من هذه الكتب، وأحيانًا ينشرون نفس الترجمة القديمة مع تعديلات طفيفة جدًا ويمارسون التزوير حينما يزيلون اسم المترجم ويكتبون بدلا منه: ترجمة نخبة من المترجمين. الحقيقة أن هؤلاء ليسوا ناشرين، بل هم تجَّار وحسب، يتعاملون مع الكتاب كما يتعامل البقال مع الجبن أو البسكوت مثلا. في الآن ذاته لدينا ناشرون آخرون على قدر كبير من المغامرة والعلم، يُقْدِمون على مشروعات حقيقية ذات أهمية بالغة. أريد أن أشير في النهاية أنه يحدث أحيانًا أن يُترجم العمل ذاته أكثر من مرة في نفس الوقت دون قصد، لأن هذه الأعمال الكلاسيكية لا توجد حقوق لشرائها وبالتالي يمكن أن يُقْدِم أكثر من مترجم على ترجمة نفس العمل دون أن يدري أن مترجمًا غيره يعمل على ترجمة نفس الكتاب. حدث معي ذلك حينما ترجمت الحرس الأبيض لبولجاكوف، وقبل صدوره بمدة بسيطة جدًا وجدته قد صدر عن المركز القومي للترجمة وصدر كذلك عن منشورات وزارة الثقافة السورية. تُرجم الكتاب إذن ثلاث مرات في الآن ذاته تقريبًا في صدفة عجيبة.

ـــ ما الفرق بين التعريب والترجمة؟ وأيهما أشد صعوبة أمام المترجم ؟

أظن أن التعريب يحاول استخلاص مضمون العمل ونقله بأسلوب المعرِّب. حينها مثلا تقرأ عملا لستيفان زفايج فتجد فيه استشهادات قرآنية وبيوت شعر عربية قديمة! في التعريب لا يلتزم المعرِّب بأسلوب الكاتب ولا بتفاصيل العمل بقدر ما يعيد خلق القصة الرئيسة للعمل في صورة عربية تخصه هو، ولا تخص كاتبه الأصلي. أحيانًا لا يحدث الأمر بهذه الفجاجة، حيث يلتزم الناقل بتفاصيل كتابة العمل الأصل إلى حد كبير لكنه لا يولي انتباهًا كافيًا للأسلوب؛ بمعنى أنك عندما تقرأ ترجمات هذا المترجم لكثير من الأعمال تجد الأسلوب فيها واحدًا؛ إنه أسلوبه هو لا أسلوب الكاتب الأصلي. يستحيل بالطبع في عملية الترجمة أن تنقل أسلوب الكاتب الأجنبي بحذافيره، لكن الترجمة عملية معقدة تعتمد على التفكير المستمر في طريقة للخروج من مأزق اختلاف اللغتين والثقافتين. يفكر المترجم دائمًا في ما يمكن أن يتخلى عنه وفي ما يمكن أن يكتسبه. كيف يجد في لغة الترجمة أقرب جسر وأسلوب للغة الكاتب الأصلي؟ مآزق مستمرة تعتمد على اختلاف اللغتين والثقافتين، يناور فيها المترجم دائمًا بطرق متغيرة، وليست لديه طريقة واحدة لحل كافة هذه الإشكاليات.

ـــ ما الفارق بين المترجم الذي يمارس الإبداع والكتابة٬ والمترجم المهني؟ وهل يؤثر الإبداع علي الترجمة أو العكس؟

الأدق أن نقول بين: المترجم الحقيقي والمترجم غير الحقيقي. الأمر مماثل لما يمكن أن نجده بين أي فنان مبدع في عمله، وآخر حرفي لا يدرك تفاصيل الفن الذي يتعامل معه ولا يتمتع برؤية فنية حقيقية. لا أقصد أن كل المترجمين لا بد أن يكونوا روائيين مثلا، لكني أقصد أنه يتوجب عليهم أن يتمتعوا بحس أدبي مرهف وقدرة جيدة جدًا على الكتابة بلغتهم الأم، سواء نشروا أعمالا إبداعية بلغتهم أم لا. يتمتع بعض المترجمين بذلك حتى لو لم يكن لديهم سجل بمؤلفات إبداعية خاصة بهم، وأحيانًا نجد ترجمات سيئة من تنفيذ كتَّاب لهم أعمالهم الإبداعية المنشورة. الأمر إذن يتعلق بمستوى الحس الإبداعي الحقيقي لدى المترجم. في حالة المترجم المبدع نشعر أننا قريبون بشدة من روح وأسلوب الكاتب الأصلي، ونجد المترجم يتوارى بقدر إمكانه، وفي الحالة الثانية نشعر أننا بعيدون تمامًا عن روح وأسلوب الكاتب الأصلي، وأحيانًا نقرأ أعمالا مترجمة ذات لغة عربية شديدة الركاكة.

ـــ لماذا يعاني العالم العربي من ندرة في ترجمة الكتب العلمية ؟

لأن الأمر يتطلب توفر مترجم على دراية كافية بالمادة العلمية، ولدينا عدد قليل بالطبع من المترجمين الذين درسوا هذه المجالات العلمية. الأمر الآخر أن تسويق وبيع الكتب العلمية أصعب كثيرًا من تسويق الأعمال الإبداعية المترجمة، مما يجعل الناشر لا يُقبِل عادة على نشر مثل هذه الأعمال. غالبية الكتب العلمية المترجمة في عالمنا العربي من إصدار سلاسل حكومية غير هادفة للربح. نحتاج بشدة إلى تشجيع المترجمين الذين يترجمون هذه الأعمال وإلى دعم دور النشر التي تُقبِل على هذه المغامرات، كما نحتاج إلى تسليط الضوء في الصحافة والإعلام على هذه النوعية بشدة.

ــــ متى يخون المترجم ؟

يمكن أن يخون في فرص عديدة ومختلفة: يخون حينما يوافق على ترجمة كتب لا قيمة لها من أجل الحافز المادي وحسب. يخون حينما يتعرض مثلا بالحذف أو الإضافة إلى النص الأصلي على أساس ديني أو فكري أو ما شابه، وتتضاعف مسؤولية هذه الجريمة حينما لا يشير إلى ذلك. يخون حينما يقدم لنا أسلوبه هو، لا أسلوب الكاتب، فنجده يترجم بذات الأسلوب كتبًا مختلفة تمامًا من حيث بنائها اللغوي.

ـــ ما أبرز الكتب التي ترجمتها؟ وماذا تترجم حاليا ؟

يوميات تولستوي في ستة أجزاء – الحرس الأبيض لميخائيل بولجاكوف – قبل شروق الشمس لميخائيل زوشينكو – سلاح الفرسان لإسحاق بابل. حاليًا أنا في عطلة من الترجمة بعد انتهائي من مشروع يوميات تولستوي الذي أنهكني بشدة، وأنتهز هذه الفرصة في العودة إلى الكتابة الروائية حيث أنه من المخطط أن أنتهي قريبًا جدًا من رواية جديدة.

ـــ ما الكتاب الذي تتمنى ترجمته أو ترشحه للترجمة ولماذا؟

الحقيقة لديَّ عدد كبير من الكتب أود ترجمتها وأرشحها للترجمة ومن المفترض أنها ستظهر تباعًا في مشروع ترجمي جديد ضخم مع دار آفاق يقدم الأدب الروسي بصورة مرتبة تاريخيًا، وذلك لارتباط هذا الأدب الشديد بالسياق الاجتماعي والسياسي، وبالتالي ستؤدي قراءة هذه الأعمال بهذا الترتيب إلى أن يحوز القاريء فهمًا ممتازًا لها حيث أن مفاتيح فهم الكثير من الأعمال تعتمد على معرفة سياقات معينة تغيب عن أغلب القراء. سنقدم في المرحلة الأولى من هذا المشروع أعمالا لجريجوروفيتش وجيرتسن وسالتيكوف شيدرين ونيكولاي ليسكوف، وسأؤجل ذكر عناوين الأعمال إلى حين الإعلان رسميًا عن السلسلة.

ـــ إلى أي مدى تتفاوت أجور في العالم العربي عنها في العالم بصفة عامة ؟

الحقيقة لا أعرف كم يتقاضى المترجم في العالم الغربي مثلا أو في الشرق الأقصى، لكني أعرف أن الفارق ضخم. لدينا كذلك فارق ضخم بين الأجور داخل العالم العربي نفسه يصل إلى تقديم بعض الدور أقل من ربع أو خمس ما تقدمه دور أخرى.

ـــ هل تختلف الترجمة من لغة وسيطة عن الترجمة من اللغة الأصلية مباشرة؟

بالطبع مختلفة، ورغم ذلك ليس هذا هو العامل الوحيد في جودة الترجمة. قرأت بعض الترجمات لأعمال روسية مترجمة عن الإنجليزية والفرنسية وكانت جيدة، وبعض الترجمات كانت عن الروسية مباشرة كانت سيئة. لكن العامل الحاسم هنا هو الفارق بين اثنين مترجمين ممتازين، أحدهما يترجم عن لغة وسيطة والآخر عن الأصلية. سنجد حينها الفارق الحقيقي. سيتمكن المترجم الجيد حينما يترجم عن اللغة الأم من الاقتراب بشدة من أسلوب الكاتب اللغوي بشدة، الأمر الذي سيحققه المترجم الجيد عن لغة وسيطة بقدر أقل لا محالة.

ـــ ما ردك على من يرى المترجم مجرد وسيط بين النص في لغته الأصلية ومتلقيه؟ ومتى يكون المترجم مبدعا؟

يتعلق الأمر بما تعنيه كلمة وسيط تحديدًا: إن كان المقصود نفس الوساطة التي نجدها لدى القواميس الإلكترونية مثلا أو الترجمات القانونية أو الرسمية، فمن المؤكد أن دور مترجم الأعمال الإبداعية أكبر من ذلك بكثير. للمترجم أدوار هائلة شديدة الأهمية، تبدأ من التعرف على الثقافة الأجنبية وتقديم المقترحات الجيدة والمهمة بهدف الترجمة. في غياب هذا الدور مثلا لن تعرف دور النشر من الأساس ماذا يجب أن تترجم. ثم يواصل المترجم المبدع دوره حينما ينجح بنسبة معقولة في حل إشكاليات العمل الترجمي ليتوارى بقدر الإمكان خلف النص المترجم الذي يقدم فيه الكاتب الأصلي بأقرب وأنسب صورة ممكنة. إبداع المترجم إذن مرهون بقدر غيابه لصالح النص والكاتب الأصليين، لا العكس كما يتصور البعض.

ـــ هل فكرت في الترجمة المعاكسة٬ أي من العربية إلى اللغة التي تترجم عنها ؟

نعم فكرت، لكنها عملية تتخطى إمكاناتي الآن بدرجة كبيرة. أنا كذلك على قناعة بأن الأفضل والأنسب والأصح أن يترجم المرء إلى لغته الأصلية، لذا إن أردنا مثلا ترجمة أعمال عربية إلى الروسية، علينا أن نجد مترجمين روسيين يجيدون العربية جيدًا، ونحاول أن نقدم كل الدعم لترجمة هذه الأعمال لدى دور نشر روسية مرموقة، أما نحن المترجمون العرب، فعلينا التركيز في ترجمة الأعمال الأجنبية إلى لغتنا العربية؛ خاصة أن نسب الكتب المترجمة في العالم العربي هزيلة جدًا بالنسبة لأوروبا وأمريكا واسرائيل مثلا.

ـــ ما الصعوبات التي تواجهك في عملك كمترجم ؟

الصعوبة الأولى في العثور على العمل الجيد الذي يستحق الترجمة فعلا. يمكن أن أطلع على أكثر من 10 كتب مثلا لأختار منها كتابًا واحدًا لأترجمه. الصعوبة الثانية هي العثور على دار النشر المناسبة، والتوفيق بين متطلبات دور النشر وبين ما أجده يستحق الترجمة. بعض الأعمال مثلا لا تتحمس لها دور النشر رغم جودتها، تخوفًا من صعوبة بيعها، وهي مخاوف مشروعة في ظل أن صناعة النشر في المنطقة تمر بمصاعب جمة. أود مثلا ترجمة أعمال لكتَّاب لا نعرفهم جيدًا في المنطقة العربية، في الوقت الذي تريد فيه أغلب دور النشر تكرار أعمال 4 أو 5 كتاب حصرًا.