محمد عبد العزيز يكتب: برامج الهوس الرياضى
كنا فيما مضى نتابع كرة القدم عبر بث مبارياتها إذاعيًا وتليفزيونيًا من خلال قنوات وإذاعات «ماسبيرو»، كانت تنتهج الحياد والموضوعية كمنهج عمل يتبعه كل القائمين على تقديم البرامج أو التعليق على المباريات. كلنا كنا على علم بالهوية الرياضية التى كان ينتمى إليها نجوم الزمن الجميل من المعلقين، أمثال الكباتن الكبار: محمد لطيف، على زيوار، حسين مدكور، إبراهيم الجوينى، أحمد عفت، حمادة إمام، ميمى الشربينى، ومحمود بكر. وعلى الرغم من ذلك لم يضبط أحدهم يومًا متهمًا بالتربص بفريق منافس. ولم يعهدهم متابع محرضين على عنف أو مبررين لسوء سلوك خارج الملعب أو داخله. لذلك كانت سياسة الدور هى الفاصلة فى توزيع المباريات على المعلقين، إذ كانت مهنية المعلق هى الفاصلة مما يمنعه من إظهار أى شبهة انتماء.
لست ميالًا بطبعى للتغنى بالماضى وتمجيد رموزه بالكلية ودون موضوعية، فقد كان هؤلاء النجوم بشرًا لهم هفواتهم وسقطاتهم بالطبع. لكن تلك الأخطاء المهنية النادرة، لا تكاد تذكر إذا ما قارناها بما نراه ونسمعه اليوم من اجتراء يومى على قواعد المهنية والموضوعية ونبذ التعصب. تلك القواعد التى أمست موضعًا للطعن كل يوم بلا رحمة، وضحيتها هو ذلك المشاهد المحدق فى الشاشة وحوله أولاده، إذ كان يرغب فى تحريضهم على ممارسة الرياضة فإذا به يعرضهم لألفاظ خادشة للحياء. وحتى إن نجا المتابع من مثل تلك الألفاظ، فهو بلا شك عرضة لتزييف مواقف، واختلاق أزمات، وفبركة حكايات ستجعل منه فى النهاية إنسانًا متعصبًا. وهذا هو مكمن الخطورة، فمن تعصب اليوم لفريق أو للاعب، فهو موضع للاستغلال وغسل الأفكار. إذ سيصبح شخصًا استمرأ التعصب واعتاده، بل وربما بالغ فى إظهاره، ومن الممكن حينذاك أن يتعصب غدًا لفكرة أو لوجهة نظر أو لتيار أو جماعة إن وجد من المتطرفين أو الموتورين- وما أكثرهم بيننا- من يوجه تعصبه هذا نحو أفكار أيديولوجية أو مواقف سياسية ضد الصالح الوطنى.
وجهة نظرى أن صناع الرياضة- مع خالص احترامى لهم جميعًا- ليس لهم أن يتصدوا للعمل الإعلامى إلا فى مواضع سأحددها. أما ما يحدث، إذ يخرج اللاعب من الملاعب اليوم فنراه غدًا قد استبدل قميصه الرياضى الأحمر أو الأبيض أو غيرهما، ليتأنق ببزة إيطالية على أحدث موديل، ويشرع فى تقديم البرامج متقمصًا دورًا ليس له، ومنتهكًا لقواعد مهنية يبذل غيره سنوات حتى يتعلمها ويجيدها- سواء فى الأكاديميات المتخصصة فى تعليم علوم الإعلام والتواصل، أو بالتمرس داخل مؤسسات إعلامية- ثم يخرج ليوجه الرأى العام، فماذا ننتظر منه غير كوارث مهنية ودعاوى تحريض وخروقات لكل الأعراف التى من المفترض أن يروج لها هذا الوسيط الإعلامى أو ذاك؟، وفى المقابل فإننى لا أرى ما يمنع أن يتصدى اللاعبون السابقون لمهمة تحليل الأداء والتعليق على المباريات، وهذه هى مواضع تخصصهم الحقيقية. أما ما نشاهده اليوم حين نرى شخصًا ما يقدم اليوم برنامجًا، ثم هو غدًا ضيف فى البرنامج نفسه وغيره يقدمه وهكذا، فتلك انتهاكات لكل قواعد المهنية لا أجد ما يبررها سوى القول بأننا نقدم طبقًا من «السمك، لبن، تمر هندى»، وفى النهاية سيكون بلا طعم ولا يفيد من يتناوله إطلاقًا.
لقد سبق للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، فى تشكيلته الأولى، تشكيل لجنة لضبط الأداء الإعلامى الرياضى، وحسنًا فعل القائمون على المجلس حينها برئاسة الأستاذ مكرم محمد أحمد، حين اختاروا القيمة والقامة الإعلامية فهمى عمر، فأحسن هو بدوره اختيار أعضاء اللجنة الذين تدخلوا بحسم وبموضوعية فى كثير من المواقف الكارثية التى كان يصنعها أولئك القائمون على تقديم البرامج الرياضية. فأصدرت تلك اللجنة قرارات حاسمة بإيقاف عدد من البرامج والمذيعين، ووجهت بإجراءات سعت لإعادة المهنة إلى نصابها وقواعدها الأصيلة. كما عقدت اللجنة المذكورة دورة تأهيلية للمعلقين الرياضيين، بهدف ضبط الأداء وإعادتهم للقواعد المهنية التى نشأ عليها الجيل الذهبى من المعلقين، وليت تلك اللجنة فعلت الأمر ذاته مع أولئك الذين يتصدون لتقديم تلك البرامج الرياضية من غير المهنيين.
ومع إعادة تشكيل الهيئات الإعلامية تمت بالتبعية إعادة تشكيل هذه اللجنة المختصة بضبط أداء الإعلام الرياضى، وضم التشكيل الجديد فى عضويته شخصيات ورموزًا رياضية ومهنية جديدة. ليس من الإنصاف أن نقيّم أداءهم اليوم، فتلك اللجنة لم تمر على تشكيلها فترة زمنية تسمح لنا أو لغيرنا بالحكم عليها سلبًا أو إيجابًا، لكن ما وضعه لها المجلس الأعلى للإعلام برئاسة الكاتب الصحفى كرم جبر من مهام يجعلنا ننتظر منها خيرًا كثيرًا. إذ حدد المجلس اختصاصات اللجنة فى: متابعة ورصد الأحداث الرياضية التى تتم تغطيتها فى الصحف ووسائل الإعلام، وضبط الأداء المهنى، بما يحافظ على قيم وأخلاق المجتمع، ومتابعة الالتزام بتطبيق المعايير والأعراف المكتوبة «الأكواد» الصادرة بقرار رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم ٦٢ لسنة ٢٠١٩، ودراسة التغطية الصحفية والإعلامية للأحداث الرياضية وإعداد تقرير بهذه الدراسة، وما يحال إليها من موضوعات أخرى تكون مرتبطة بطبيعة أعمالها. مهام محددة نتمنى أن تنجز بدقة وبسرعة واجبة تفرضها تلك التجاوزات التى تضج بها المنصات الإعلامية الرياضية، وتحدث أزمات فى الوسط الرياضى، تكاد- وبلا أدنى مبالغة- تهدد السلم المجتمعى.