رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ محمد عبدالله دراز.. إمام الوسطية السمحة «1-3»



وُلد العلاّمة محمد عبدالله دِرَاز، بقرية «محلة دياى» إحدى قرى دلتا مصر بمحافظة كفرالشيخ حاليًا فى ٨ نوفمبر ١٨٩٤، لأسرة علمية عريقة؛ فوالده الشيخ عبدالله دراز، الفقيه اللغوى المعروف الذى قدم شروحًا لكتاب الموافقات للشاطبى، والذى عهد إليه الإمام محمد عبده، بمهمة الإشراف على المعهد الأزهرى الجديد بالإسكندرية اطمئنانًا إلى علمه وكفاءته.
درس دراز بالأزهر وحصل على الشهادة العالمية عام ١٩١٦، وعُيّن مدرسًا عام ١٩٢٨، ثم أستاذًا للتفسير بكلية أصول الدين، فى عام ١٩٣٦ سافر إلى الحج وفى العام ذاته حصل على منحة دراسية للدراسة بجامعة السوربون الفرنسية، فأقام فى فرنسا ١٢ سنة مضت كلها جدًا وانكبابًا على استيعاب الثقافة الغربية من منابعها الأصلية، وتأملًا مقارِنًا لتلك الحصيلة بمبادئ علم الأخلاق فى القرآن الكريم، وهناك درس على يد كبار المستشرقين مثل: «ليفى بروفنسال»، «لويس ماسينيون»، «لوسن»، حتى نال درجة الدكتوراه فى فلسفة الأديان بمرتبة الشرف الأولى عام ١٩٤٧.
تألفت رسالته من دراستين: الأولى مدخل إلى القرآن الكريم، وهى دراسة تمهيدية موجزة حول تاريخ القرآن، والثانية دستور الأخلاق فى القرآن الكريم، وتقع فى حوالى ٨٠٠ صفحة، قدم خلالها رؤية متكاملة للنظرية الأخلاقية القرآنية فى شقيها النظرى والعملى. وإنجاز الرسالة الأساسى أنها استخلصت- للمرة الأولى- الشريعة الأخلاقية من القرآن فى مجموعها، وقدمت مبادئها وقواعدها فى صورة بناء نظرى متماسك مستقل عن كل ما يربطه بالمجالات القريبة منه، وهو ما أحدث انتقالًا بها من دائرة التعاليم الوعظية التى تستهدف تقويم السلوكيات إلى الدائرة المعرفية. لم تنل الدراسة فى السوربون والاحتكاك بالمستشرقين من أزهرية الرجل العتيقة واعتزازه بثقافته وتراثه؛ فقد كان مؤمنًا بأن مهمة الباحث المسلم تتجاوز إحياء التراث، ووصل ما انقطع منه إلى تحديثه والإضافة إليه، ولذلك شرع قبيل وفاته فى كتابة مؤلفه «الميزان بين السُنة والبدعة»، وأراد به أن يُحدّث كتاب الإمام الشاطبى «الاعتصام»، إلا أن أجله المحتوم لم يمهله أن ينجز مهمته الجليلة.
خلّف دراز تراثًا فكريًا راقيًا لم يتجاوز ١٤ مؤلفًا تراوحت بين الكتب والبحوث، وأهم كتبه: «النبأ العظيم، الدين: بحوث ممهدة لتاريخ الأديان». أما بحوثه فأبرزها: «الربا فى نظر القانون الإسلامى، مبادئ القانون الدولى العام فى الإسلام، حول المؤتمرات العالمية للأديان»، وعلى ندرتها فقد شكلت إضافات معرفية سدت فراغًا فى حقول الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام وتاريخ الأديان.
كان دراز يحمل بين جنبيه نفسًا أبيَّة، وكان يتصف بشمائل نادرة، أجملها شيخ أهل قَطَر عبدالله الأنصارى، فعدَّ منها: «الفطنة، والذكاء، والحِلْم، والأناة، والتواضع، والوداعة، والوفاء، والجرأة، والإقدام، والشهامة، والصلابة فى الحق، ولباقة الحديث، ولين العريكة، والحدب على المرافقين». كان يدرك قيمة الرسالة القرآنية التى يحملها، كما كان يحمل همَّ الأمة أينما حل وارتحل.
ومن مظاهر عزة نفسه دعمه العلنى- وهو مقيم بفرنسا- حركات التحرر فى المغرب العربى، الذى كانت فرنسا تحتله آنذاك، وحينما عرض عليه رجال الثورة المصرية أن يكون شيخًا للأزهر اشترط أن يتمتع الأزهر باستقلالية أكاديمية عن السلطة، ولما رفض رجال الثورة ذلك اعتذر دراز، عن قبول المنصب، وأصرَّ على رفضه له رغم المحاولات والعروض المتكررة.
كان دراز «ابن الأزهر، وابن السوربون»، وقد أتاحت له الدراسة المعمَّقة لكلٍّ من الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية من منابعهما الأصلية بناء رؤية تركيبية تحليلية فريدة، بعيدًا عن السطحية التبسيطية، وعن «سوء الهضم العقلى» الذى أصاب الكثيرين ممن وقفوا عند حدود الثقافة الموروثة الراكدة أو الغربية الوافدة. كان متعمقًا فى روحانيات الغزالى والحكيم الترمذى وأبى طالب المكى، متضلعًا بفلسفة «ديكارت» و«كانت» و«برجسون»، وقد امتاز دراز، بفضل هذا الفكر التركيبى برحابة الأفق، وعمق التحليل، ودقة الاستدلال، مع حجاج مقنع، وبلاغة ساحرة استمدَّها من بلاغة القرآن الكريم.
كانت أهم سمة من سمات شخصية دراز، والمنبع الذى فاضت منه كل مآثره العلمية والعملية هى الوَلَه بالقرآن الكريم، كان رجل القرآن بحق، فقد ملكت عليه محبة القرآن لبه، وشغفت قلبه، فكان شغله الشاغل، لا يكاد يُرى إلا وهو منكب على قراءته وتدبُره، أو قائم يصلى به. وقد انصب اهتمامه العلمى على القرآن حصرًا، فلا يكاد يوجد له عمل علمى إلا والقرآن محوره ولبابه. ولا يستطيع دراز، كفكفة عشقه لكتاب الله وتعلقه القلبى به، فهو يتتبَّع ألفاظ القرآن تتبع الوالِهِ، ويصفها بحق بأنها «حبات درية».
ثابر دراز، على قراءة ستة أجزاء من القرآن كل يوم دون كلل أو ملل، وكان معظِّمًا للقرآن، يسجد سجود التلاوة أثناء محاضراته فى التفسير، ويطلب من طلابه التوضأ قبل بداية المحاضرة استعدادًا لذلك. وقد كتب عنه رفيق رحلته إلى المؤتمر الإسلامى بلاهور، الشيخ محمد أبوزهرة: «كان يؤمُّنا فى صلاة العشاء، ثم يأوى كل منا إلى فراشه، ويأوى هو إلى صلاته وقرآنه. وكنت لا تراه إلا قارئًا للقرآن أو مصليًا».
كان الشيخ دراز، إمامًا من أئمة الوسطية الإسلامية السمحة، وقد تجلت وسطيته فى تناوله عددًا من الثنائيات الكبرى التى حيرت الفكر الإسلامى واستنزفته، وهى: العقل والنقل، السُنة والبدعة، الجبر والاختيار، السلم والحرب، العلم والدين، الخلق والقانون.. إلخ. فهو يرى أن «التمييز بين الخير والشر.. إلهام داخلى مركوز فى النفس الإنسانية قبل أن يكون شِرْعة سماوية». بيد أن الشرع الإلهى «يكمل الشرع الأخلاقى الفطرى»، وهى تكلمة ضرورية للفطرة الإنسانية التى تشوبها شوائبُ صادَّةٌ عن الحق والخير، أو ظلمات قائدة إلى الحيرة والاضطراب.
وبدون نور الوحى، فإن البشر يظلون فى صراع دائب حول تعريف الخير والشر «ولسوف تُقاوَم عقول بعقول، كما تُقاوَم عواطف بعواطف»، وقد أفادنا تاريخ البشرية بضروب من هذا التخبط لا حدود لها، من تقشف «النرفانا» البوذية، إلى إباحية الرواقية اليونانية. وهى كلها شهود على أن نور الوحى ونور الفطرة يجب أن يظلا فرسى رهان، كما أراد لهما خالق الشريعة الفطرية، مُنزل الشريعة السماوية. لا يكاد عمل من أعمال دراز، الفكرية يخلو من نظرات تجديدية ثاقبة، لكن تجديده تجلَّى أكثر ما تجلى فى الدراسات القرآنية، ففى هذا المضمار يمكن القول دون مجازفة إن دراز، أسس علمين جديدين، هما علم «أخلاق القرآن» وعلم «مصدر القرآن»، ففى الأول كتب كتابه «دستور الأخلاق فى القرآن»، وفى الثانى ألف كتابيه: «النبأ العظيم ومدخل إلى القرآن الكريم».. نستكمل فى الحلقة القادمة.