رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ما بين حياة راهب ملتزم وآخر غير ملتزم


عندما يعتزم شاب على الحياة الرهبانية لا بد له أن يجتاز فترة اختبار ليتأكد رئيس الدير من أنه صادق فى رهبنته، لأن الحياة الرهبانية الحقيقية غير سهلة ولا هى مليئة بالترف أو «تغيير المزاج»، كما يقول أحدهم عن غير وعى!، وقد تمتد فترة الاختبار هذه إلى سنوات!.
لكن هناك من هو غير صادق فى رهبنته يمكنه أن يصمد طوال فترة الاختبار هذه مُظهرًا كل مظاهر الطاعة الرهبانية، لكنه فى حقيقة أمره يخفى وراء رهبنته أمورًا أخرى منها: السعى نحو الأسقفية بما فيها من كرامات واستقبالات ورحلات فى داخل البلاد وخارجها ومقار للإقامة.. إلخ، أو ينزل إلى العالم مرة أخرى للخدمة فى الكنائس المختلفة، أو يسافر إلى الخارج للخدمة ببلاد المهجر، وكل هذا يتطلب التودد إلى المسئول والتقرب منه فيسقط فى حياة الرياء والنفاق التى هى ضد الحياة الرهبانية الصادقة.
أما عندما تعتزم شابة على الحياة الرهبانية، فالأمر هنا مختلف تمامًا عن رهبنة الشاب، لأنه فى رهبنة الفتيات لا توجد رتب كهنوتية ولا خدمة فى خارج الدير ولا خارج مصر، بل حياة رهبانية ملتزمة داخل أسوار الدير والتزام صادق داخل القلاية فى حب حقيقى للحياة الرهبانية، وتتلمذ أمين على كتابات آباء الكنيسة الأولين والتمسك بسيرتهم العطرة.
لكن للأسف الشديد يطل علينا أحد أساقفة هذه الأيام وينصح الراهبات للخروج للخدمة خارج الدير سواء داخل مصر أو خارجها- أى يُخرجهن من الفردوس- ويدلى بتصريح محزن جدًا وفى غاية الأسف فيقول: «أحيانًا الخروج للخدمة فى العالم بالنسبة للراهبة ممكن يعدل مزاج البنت»!! كيف يصدر هذا الكلام الساذج جدًا من أسقف؟، ما يكشف بصدق عن أنه لم يسبق له الحياة الرهبانية الصادقة، ولا تتلمذ على كتاب «بستان الرهبان» ولا كتابات آباء الكنيسة الأولين، أمثال «مار إسحق السريانى» ولا كتابات «يوحنا الدرجى».
إنه بكلامه المُعثر هذا أساء إلى الحياة الرهبانية بصفة عامة، ولا يعلم أن آباء الكنيسة الأولين قالوا فى مدح الحياة الرهبانية «إنهم ملائكة أرضيون»، فكيف يهبط بهم إلى مصاف الناس الأشرار؟ الراهبات يتمتعن بطلعة ملائكية وكلمات روحية ونقاء فى النفس وقداسة فى السيرة.
أحد رهبان دير البراموس العامر وهو الأب كيرلس البراموسى- الذى صار فيما بعد الأنبا مكاريوس، أسقف المنيا، وما زال يحيا الحياة الرهبانية الصادقة- يقدم لنا فكره الرهبانى بداخل أسوار الدير المحبوب فى مدونة روحية رائعة بعنوان «جرس نصف الليل»، فيقول: «فى كل ليلة، وفى هدوء الليل البهيم، وخلال أغلى ساعات الليل- حيث يخلد الناس إلى النوم عادة- ننفض النوم.. فقد صرنا على وعد مع ذاك الذى لا ينعس ولا ينام، أن نلتقيه فى ذلك الوقت من كل ليلة. ننتظر بشغف ناقوس الدير وهو يدق ثلاث دفعات- هى الهجعات الثلاث التقليدية- بصوته المُحبَّب لدينا.. يرجّ البرية رجًّا، مُريح ومهيب، صريح وواضح، متمهّل وواثق.. فهو من جهة يحمل البشرى باجتماع ملائكى وتسبيح سمائى، ومن جهة أخرى يحمل التحذير برفق للنائمين والكسالى، يكاد ينطق قائلًا إن الوقت مُقصَّر.. يأتى وسط الهدوء الليلى الشديد كصوت بوق، وكأنه يؤذّن بمجىء العريس.. فهل تحمل الهجعات الثلاث المتتالية معنى طول الأناة وتوالى الفرص، وأن الملكوت أوشك على الإقبال.. أم أن تلك الدقات تعلن بأن كل شىء قد أُعِدّ، وأن رب البيت هناك ينتظر المدعوين، فهل هنا ينتظر المسيح أولاده داخل الكنيسة، بعد أن أرسل عبده ليقرع الناقوس، داعيًا الجياع والعطاش لينهلوا من كنوزه بسخاء؟ ومع أن ناقوس الدير يدق فى مناسبات عدة منها القداس، ومنها صلاة الغروب، ومنها باكيًا عتد توديع أحد الأحباء.. إلا أن دقاته فى نصف الليل تأتى مختلفة.. فهى: سلسة، دافئة، مُميَّزة، صارمة، يلبّى نداءها الرهبان فيخرجون من المغائر وشقوق الأرض هائمين على وجوههم، يأتون من كل صوب كالأشباح، جادين فى مسيرهم، وكأنهم على محفات الملائكة، يدلفون إلى الداخل فتحتويهم الكنيسة الحجرية البسيطة، يحتفلون فيها على التوالى: بتشوقهم لمجىء العريس، ثم طلب الفوز بالرحمة فى الدينونة، ثم الاشتياق للحياة الدائمة مع المسيح فى ملكوته، وما التسبيح الذى يعقب ذلك إلا الحياة التى سنحياها بمجد فى معيّة الخَتَن الحقيقى. وما أن تنتهى هذه الخدمة الليلية حتى يقرع الناقوس من جديد، وكأنه يعلن عن بداية حياة جديدة، فلقد عاين الراهب انقضاء الظلمة وانبلاج النور.
ولنأتِ الآن إلى قارع الناقوس نفسه، والذى أُعطِى له هذا الشرف، أن يكون (برودروموس)، أن يكون يوحنا المعمدان الجديد، أن يكون ذاك الذى يصيح: (هلموا جميعكم إلى عشاء عُرس الحمل، فهوذا العريس قد أقبل وهو يدعوكم جميعًا). وأتذكر أننا ونحن فى طريقنا إلى الكنيسة فى نصف الليل، أننا كنا نمرّ بقارع الناقوس فنحيّيه برءوسنا ونشكره ونستزيده.. ونهمس له فى داخلنا: (حقا إنك تقوم بعمل عظيم)». هذا مثال لراهب ملتزم له أحاسيس رهبانية حقيقية ودافئة، بينما آخر غير ملتزم يرى فى الرهبنة «تعديل مزاج»!! أى رهبنة هذه التى يتحدث عنها؟ لقد كشفت كلماته هذه عن أنه كان مخادعًا عندما توجه إلى الدير، فلم يكن صادقًا فى رهبنته.
أذكر للبابا كيرلس السادس الذى رحل عنا وهو يبلغ من العمر ٦٩ عامًا لكن حياته الرائعة كانت كرائحة بخور، كأنغام المزمور، حياته نور من نور، وكم كان يردد على مسامعنا من أقوال القديس مار إسحق السريانى، من بينها: «من جرى وراء الكرامة هربت منه، ومن هرب منها بمعرفة تبعته وأرشدت الناس إليه». فى فترة خدمته بيننا كان له ثلاثة تلاميذ على التتابع، وبعد أن خدموا معه وتتلمذوا على يديه وانطبعت أعماله فى شخصيتهم أكملوا حياتهم كرهبان أتقياء فى الدير.
حدث بعد احتفالات الكنيسة القبطية عام ١٩٦٨بافتتاح الكاتدرائية المرقسية الكبرى ووصول رفات القديس مرقس من روما وحضور رؤساء وفود العالم تلك المناسبة النادرة، توجه إليه تلميذه يهنئه بتلك الأمجاد التى حدثت فى عهده، فقال له بكل تواضع حقيقى: «كل ما شاهدته ولا يوم واحد من أيام الطاحونة»، تلك طاحونة الهواء بمصر القديمة التى عاش فيها الراهب الفقير الأب مينا البراموسى المتوحد فى عشرة حقيقية مع الله متمتعًا بسلام الله الكامل، ممتلئًا بالنعمة الحقيقية.
فى سياق الحديث عن الرهبنة الجادة.. أذكر أن أحد تلاميذى بهندسة الإسكندرية خريج قسم الكمبيوتر، بعد أن تخرج بتفوق ملحوظ وعمل مهندس كمبيوتر، فكر فى التقدم لاختبار الذكاء على مستوى العالم. وفعلًا فى يوم من الأيام وصلتنى رسالة من الجهة المُنظمة لهذا الاختبار بأمريكا تفيد باختيارى للإشراف على هذا الاختبار على أن يتم فتح مظروف الأسئلة فى يوم محدد وتوقيت محدد، والاختبار لمدة محددة، بعد ذلك توضع كراسة الإجابة فى مظروف خاص يُرسل بالبريد السريع فى نفس يوم الاختبار.
وفعلًا فى اليوم المحدد حضر تلميذى المهندس لمكتبى بالكلية، وفى الوقت المحدد فتحت مظروف الأسئلة وقدمت له كراسة الإجابة والأسئلة وأخبرته بالزمن المحدد، وجلست بمكتبى أقوم بإعداد بعض المقررات الدراسية. وعند نهاية الوقت المحدد وجدت تلميذى المهندس قد أغلق كراسة الإجابة وجلس مكتوف اليدين. يا للأمانة المُذهلة والضمير الحى. أخذت منه كراسة الإجابة ووضعتها بداخل المظروف وتوجهت لمكتب البريد وأرسلت المظروف بالبريد السريع. وبعد فترة أخطرت الجهة المنظمة للامتحان الطالب بالنتيجة، وكان ترتيبه الخامس على مستوى العالم!! بعد فترة هاجر إلى أمريكا عند شقيقه الأكبر، وكانت بيننا مراسلات.
وفجأة فى يوم من الأيام وجدته أمامى بالإسكندرية فرحبت به ولكنه لم يخبرنى عن سبب عودته. عرفت بعد ذلك- فى اليوم التالى- أنه ذهب للرهبنة بدير القديس مينا بمريوط، وإلى الآن- منذ ما يقرُب من عشرين عامًا- يرفض أى درجة كهنوتية ويحيا راهبًا بسيطًا لا يتطلع إلى أى منصب كنسى. إنسان يعلم تمامًا الهدف من رهبنته ويخلص لهذا الهدف. حزنى وأسفى على تصريحات الأسقف.