رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أكتوبر.. زمن الأساطير


يقول شمس التبريزى: «البذرة لا تصدق أن شجرة ضخمة مخبأة داخلها».. ولا يصدق البشر فى حياتهم اليومية أن البطولة مخبأة فى سلوكهم الاعتيادى إلى أن تحين لحظة يتعرض فيها الوطن للإهانة، فتورق شجرة الشجاعة، ومن بذرة صغيرة يفوح عطر الأسطورة.
يقول أيمن حسن، الجندى المصرى البسيط، إن عمه كان جندى صاعقة، وعمه الثانى كان فى سلاح المدفعية الخفيفة، أما عمه الثالث فقد استشهد فى حرب أكتوبر، وأنه- أى أيمن- تشبّع من صغره بقصص الدفاع عن مصر، ومن صغره تشرّب ملاحم وبطولات حرب أكتوبر.. عام ١٩٩٠ كان أيمن جنديًا على الحدود حين شاهد ذات يوم كيف انقطع الحبل الذى يرفع العلم المصرى، فطار العلم إلى الجانب الآخر من الحدود، حيث الجنود الإسرائيليون، فما كان من أحدهم إلا أن التقطه وقام بمسح حذائه به أمام عينى أيمن.. وبعد ذلك بأربعة أيام تعمد الجندى الصهيونى أن يستخدم نفس العلم المصرى استخدامًا قذرًا مع مجندة إسرائيلية تحت بصر أيمن! وعبر أسلاك الحدود سدد أيمن نظرة إلى الإسرائيلى وخاطبه فى نفسه بقوله: «لقد طلبت موتك بنفسك، فانتظره».
وقرر أيمن أن يصطاد ذلك الجندى مهما كلفه الأمر، فظل تسعة أيام كاملة يحسب ساعات ظهور الجندى وأيام إجازاته، غيابه، وفى تلك الأثناء جددت إسرائيل عدوانها الفظ على المقدسات فى فلسطين، فقرر أيمن أن جنديًا واحدًا لم يعد يكفى للثأر، وأنه لا بد من عملية فدائية أكبر، وراح يخطط لعمليته على مدى شهر ونصف الشهر بالكامل من غير أن يُطلع أحدًا من زملائه على خطته خوفًا من أن تتسرب المعلومات.
وظل أيمن يعد للعملية الكبيرة خلال تلك المدة ويقول فى ذلك: «خططت لضرب أتوبيسين يحملان جنودًا وضباطًا داخل المنطقة الإسرائيلية، وكنت أعلم أن رجوعى حيًا أمر مستحيل، لهذا حصلت على إجازة سافرت فيها إلى بلدتى، وهناك سددت ديونى لمن كنت مدينًا له، وصالحت من كنت قد أغضبته، وقمت بزيارة من لم أكن قد زرته، وودعت أقاربى محتسبًا نفسى شهيدًا، وعدت إلى وحدتى، وكنت قد رسمت خط سيرى، وكنت أتدرب عليه يوميًا بمختلف الذرائع.. كان الأتوبيسان يتحركان بحماية قوية، وفى أوقات محددة، لكنى اكتشفت دقيقتين لا يكون فيهما الأتوبيسان محميين، ما بين السادسة وثلاث دقائق والسادسة وخمس دقائق، حسبت هاتين الدقيقتين كما فى الشطرنج، ورتبت كل شىء، لكن واجهتنى مشكلة الحصول على الذخيرة من مخزن السلاح، وكان يقيم فيها خمسة جنود هم إخوة وزملاء لى، وقفت عند باب الحجرة أدعو الله أن يفكها من عنده، وبالفعل فوجئت بضابط يسأل جنديًا عن وجود تليفزيون، فأسرع الجنود إلى مكان آخر ليجلبوا له التليفزيون، ولم يبق فى مخزن السلاح أحد ما عدا جنديًا واحدًا، فرحت أزحف على بطنى إلى صناديق السلاح حتى حصلت على أربعمائة طلقة.. وفى فجر ٢٦ نوفمبر ١٩٩٠، هبطت مشيًا إلى الحدود الإسرائيلية، وتوقفت عند السلك الشائك الفاصل حين أخذت ساقى اليسرى ترتجف بشدة، وقلت أخاطبها: «ح تكملى معى أهلًا وسهلًا.. لن تكملى سأقوم بقطعك من بدنى»، واحتسبت نفسى شهيدًا عند الله.. عبرت الحدود واختفيت فى مكمن كنت قد حددته قبل ذلك، وكان هناك على بعد ثلاثين مترًا ملف للسيارات، المفروض أن يمر به الأتوبيسان.
اشتبكت مع الأتوبيس الأول، ثم تظاهرت بأنى مصاب أعرج وأنا أتجه إلى الأتوبيس الثانى، وفتحت النار على الجميع، وفى اللحظة الأخيرة شاهدت وجه ذلك الجندى الذى مسح حذاءه بعلم بلادى، فأفرغت فيه ست عشرة رصاصة، ورجعت بينما ظلت تطاردنى طائرة هليكوبتر إسرائيلية مسافة ثمانين مترًا داخل حدودنا المصرية، ولم تستطع إصابتى، فقط طلقة واحدة مرت وشعرت بهوائها البارد قرب رموش عينى، لكنها لم تكن قاتلة.. رجعت إلى حدودنا، وكنت أدعو الله لو قدر لى الموت أن أموت داخل بلادى، وسلمت نفسى لقيادة الوحدة التى فوجئت بما فعلت، وكان أول من قابلنى هو النقيب محمد العسيرى..
قلت له: «قمت بهذه العملية كما قام بمثلها من قبل الشهيد سليمان خاطر»، فوضع يده على كتفى وقال لى: «سنصونك فى عيوننا».. تبقى فى داخل كل مصرى هذه البذرة الصغيرة التى تخفى شجرة، تتفتح ما أن يتهدد الوطن خطر أو تمس كرامته إهانة.. تبقى بطولات شعبنا وبسالته.