رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأب.. الحالة 915



قالوا كثيرًا عن الموت، وصفحات التراث الإنسانى والدينى والأسطورى حافلة بالعديد من التعريفات بمفهوم الموت ودلالات الحدث باعتباره إحدى أهم الحقائق المطلقة التى تداهم الناس بأشكال وصيغ مختلفة، وتتنوع رؤيتهم للموت والتفاعل معه وفق ثقافات وحضارات، كل شعب يتراكم لديه موروثات من الحكمة والفلسفة والتأمل الروحى النبيل.
فى تراث المواطن الإنجليزى يقول المثل المتداول إن الموت يهزأ بالطبيب والموت هو القادر أن يسوى بين الناس، لأن الموت والقبر لا يميزان بين الأشخاص، أما المواطن الهندى فيرى أن الحياة تستمد قيمتها من الموت، واليابانى يقرر أن الموت أكبر من أى جبل، وأصغر من أى شعرة فى آن معًا، والتركى يؤكد أن الموت جمل يركع أمام كل الأبواب، وفى أمثالنا المصرية «قالوا الجنازه حارة، كل واحد بينعى همه» و«إيش حال مريضكم، قال قوينا مات» و«إللى ما يبكى على فى الحى وأنا سامعه، ساعة الممات يوفر مدامعه».
وفى النهاية أجدنى أتوقف عند قول الإمام الغزالى «عش ما شئت فأنت ميت، وأحبب من شئت فأنت مفارقه، واعمل ما شئت فأنت مجزى به»، وتأسرنى مقولة الحسن بن على «يا ابن آدم، إنما أنت عدد، فإذا مضى يومك فقد مضى بعضك».
نعم نحن فى النهاية أعداد وأرقام تضاف إلى دنيا الوجود عند الميلاد، ويتم حذفها بمجرد الموت.. لقد عشت عن كثب حذف بعض أهم وأعز تلك الأرقام فى حياتى فى مواجهات حزينة وأحيانًا صادمة، ولا أعرف إذا كان ذلك من قبيل الصدف وهدايا القدر الصعبة أم ماذا أن أشهد وحدى تلك اللحظات الفارقة بين الموت والحياة لأربعة هم أعز من أحببت.. جدتى لأبى وجدتى لأمى وأمى، وأخيرًا مشهد اللحظة الأشد قسوة عندما ودع أبى الحياة على فراش المرض بأحد المستشفيات الكبرى منذ ١٢ سنة فى مثل هذه الأيام، ليس فقط لأبوته الحانية الرائعة، ولا لأنه كان يعيش معى بعد رحيل الأم ١٥ سنة حتى بلغ عمره ٩٠ سنة هى الأروع فى حياتى، وإنما أيضًا لما يمثله لى من قيمة إنسانية بديعة نبيلة متسامحة مع الدنيا بأسرها.
عندما سلمت والدى لأطباء المستشفى بعد غيبوبة توهته عن كل الأحباب صار بالنسبة لهم حالة تحمل رقم الغرفة ٩١٥.. وعلى الفراش المقابل للحالة كان مكان المرافق، والقائم بالرعاية اللحظية التى تبادلتها مع زوجتى الطيبة الرائعة.
وعلى طريقة القطع المتداخل للمشاهد كما يطلقون عليه فى عالم السينما ما بين فعلين دراميين متوازيين زمنيًا ويوحى بعلاقة بينهما كنت أرقب حال والدى المريض وفى كل مرة يحدث استقرار نسبى يذهب الخيال بى إلى دنيا المريض الحية الرائعة السابقة فى مشاهد تتقاطع على التوازى.
■ يتحلق حولى وأنا طفل مجموعة من الأطفال يضحكون وهم يقلدوننى فى سخرية قاسية وأنا أنطق حرف السين خاء فى كل كلامى.. يفاجأ الأب بالمشهد فيقترب منى حانيًا ماسحًا دموعى ويعود بى مسرعًا إلى البيت ليعكف على محاولة إصلاح خلل النطق باقتراح أن أنطق حرف السين ثاء مع طلب أن أخرج لسانى وتنجح المحاولة ويراها الأب انتصارًا، وبالتدريج وبإصرار تبدلت الثاء بالسين وعندها قال لى نادى على أختك سهير فكان النطق السليم وفرحة الأب الطيب دونما توجه لمتخصصين فى علوم التخاطب والاكتفاء بالحب والسماحة التى حرص أن تظلل البيت كل الوقت فهى الشافية المعالجة لكل الأسقام.
■ الطبيب يقرأ نتائج التحاليل اليومية مبشرًا إياى لقد نجحنا فى رفع نسب الصوديوم والبوتاسيوم نسبيًا.
■ فى حفل زفاف خالتى الطيبة أتابع وأنا الطفل الصغير أبى بفخر وسعادة وهو يقف مهنئًا منشدًا بعض من أزجاله البديعة.. كل الحمام لفاف دوار لما الأليف يلقى أليفه
بعد التعب من كام مشوار بيحط وينزل على كيفه
■ يسألنى الطبيب منذ متى غاب أبوكم عن وعيه بكم على هذه الصورة؟
■ الوالد يصطحب أخى الأكبر إلى يوسف بك وهبى لدعمه لدخول معهد السينما رغم إيمانه الشديد بموهبة الابن وعدم الاحتياج إلى أى تزكية.
■ مجموعة من الأطباء حول فراش والدى المريض ويقول لى أحدهم «أنت ابن الحالة؟ ويستطرد النهارده جلسة غسيل للكلى.. نعم صرت فى كل ردهات المستشفى «ابن الحالة ٩١٥».
■ الوالد يذكرنى كيف كانت أمى، رحمها الله، تحبنى، فاكر مشروع تخرجك فى كلية الفنون وإزاى جمعت أجزاء اللوحة الورقية الضخمة على الأرض، ولم تنم ٣٦ ساعة حتى انتهت من تخريم كل خطوط الرسوم المحددة للتصميم بدبوس إبرة.. ملايين الخروم حتى يسهل عليك عملية طبع التصميم الجدارى على الحائط وهو المشروع اللى كان السبب فى حصولك على الترتيب الأول فى البكالوريوس.
■ الطبيب يتابع الوالد وينظر إلىّ مطمئنًا هناك تحسن ما.. يخرج الطبيب وأربت على جسد والدى الطيب مطمئنًا وأنا لا أعرف إذا كان يسمعنى أم لا.. وفى مفاجأة صادمة ألحظ توقف التنفس فألحق بالطبيب ليعود ويقرر وداع الحياة للحالة ٩١٥.
■ منذ رحيل الأب وافق د. محمد الباز على أن يكون عمودى الأسبوعى بجريدتنا الرائعة «الدستور» بمسمى «بشائيات» بكل مشاعر طيبة أحفظها له بالتأكيد.
«طوبى للأموات الذين يموتون فى رضا الرب يقول الروح:
فليستريحوا منذ اليوم من المتاعب، لأن أعمالهم تصحبهم»