رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جماعات الإرهاب واستهداف الطفولة



قرأنا فى جريدة «المصرى اليوم»، (الإثنين ٢٨ سبتمبر)، تحت عنوان «إخلاء سبيل ٦٨ طفلًا مُتهمًا بـ«أحداث شغب» ما نصه: «أمر المستشار حمادة الصاوى، النائب العام، أمس، بإخلاء سبيل ٦٨ طفلًا من المتهمين بالمشاركة فى أحداث الشغب التى وقعت خلال الفترة الأخيرة، وجاء ذلك بعد أخذ التعهُّد على ولاة أمورهم بالمحافظة عليهم وحُسن رعايتهم، وعدم السماح لهم بارتكاب مثل تلك الأفعال، وعدم تعريضهم للخطر مُستقبلًا، وتعكف النيابة العامة على استكمال التحقيقات مع باقى المتهمين بالقضية المشار إليها».
انتهى الخبر الذى نشرته الجريدة، وهو خبر يجب ألا يمر مرور الكرام، فالمسألة ودلالاتها أعقد من أن نسدل عليها الستار ونطوى صفحتها، بمجرد أخذ تَعَهُّدٍ على أولياء أمورهم بحُسن رعايتهم، و«عدم السماح لهم بارتكاب مثل تلك الأفعال».
بدايةً فحسنًا ما فعله السيد النائب العام بإفراجه عن هذه المجموعة من «الأطفال»، فما كان يليق أن يُحبسوا مهما كانت الأسباب، مع المجرمين والخارجين على القانون، لكنى أعتبر هذه الواقعة جرس إنذار يدق بقوة لكى ينبه حواسنا وعقولنا إلى خطورة هذا الأمر، ومغزاه السلبى على الوطن ومستقبله.
فمن الوهم تصور أن ما فعلته هذه المجموعة من الأطفال كان محض تصرُّف صغار لا يجب أن يُولى اهتمامًا، فالحقيقة أن سلوك هذه الجماعة من الأطفال إنما يُشير إلى أن جماعة «الإخوان» الإرهابية وتوابعها، ما زالوا يعتمدون أسلوب التجنيد والتنشئة والإعداد و«الأخونة» لأعضائها منذ نعومة أظافرهم، وأن نفوذهم فى التعليم بمختلف درجاته ومؤسساته، وبالذات «الأوَّلِى»، ما زال على درجة كبيرة من الخطورة، رغم ما أصابها من ضربات وما حل بها من تآكل.
وأستشهد هنا بفقرةٍ من كتاب «الخروج من الجنة»، للأستاذ «سامح فايز»، الكاتب والأديب الذى حكى جانبًا من تجربته فى صفوف «الإخوان»، قبل أن تتفتح عيناه على حقيقتها، فينفصل عنها، يقول فيها: «أخبرنى شيخى بعد سنوات من تركى للجماعة أن التعليمات جاءت لهم بحتمية إعداد جيل جديد يحمل راية الجماعة مُستقبلًا. كان ذلك فى العام ١٩٩٥، وكنت ممن تم اختيارهم وأنا ما زلت طفلًا فى الحادية عشرة من عمرى.
لم يشغل أبى باله بالأمر، هل لأنَّ ذلك الموظف البسيط بهيئة النقل العام، والذى يخرج كل يوم فجرًا ويأتى بعد أن تغرب الشمس، لا يجد حيِّزًا من وقته لهذا الطفل، أم أن رؤية طفله الصغير يُصَلِّى ويقرأ القرآن ويقيم الليل شىءٌ قريب إلى النفس. لم أدرك حينها الآلية التى تتعامل بها الجماعة مع أعضائها. كان من الصعب على الطفل الصغير إدراك أن تلك الأوراد والأذكار والصلوات والكُتيبات التى امتلأت بها جدران مكتبته الصغيرة ليست فى الأصل كى يصير شيخًا تقيًا، إنما وضعت ليكون إخوانيًا مُطيعًا».
تَرُدُّ هذه الفقرة البليغة على كثير من التصورات التى لا تستند إلى أساس، حول «براءة» هذه النوعية من أفعال الأطفال، أو كيفية صياغة أفكارهم وتوجُّهاتهم وهم فى هذه المرحلة العمرية الصغيرة، كما تُشير إلى أن التعويل فى استنقاذهم من مستنقع «الجماعة» قبل السقوط فيه لا يجب أن يستند إلى مُجَرَّد استحضار أولياء الأمر، و«أخذ تَعَهُّدٍ» عليهم بألا يُكرر أطفالهم ما فعلوه، فالأب كما يشرح «سامح» مشغول بالحرب على جبهة لقمة العيش التى ينتزعها بشق الأنفس، كما أن الأهل يُفرحهم اهتمامات طفلهم الدينية، نظرًا للثقافة السائدة، دون أن يدروا أو حتى مع دراياتهم بخلفية هذه الاهتمامات غير البريئة.
إن نقطة الضعف الرئيسية فى خطط مواجهة «الإخوان» والجماعات الإرهابية الأخرى، هى إهمال هذا الجانب الرئيسى فى المعركة المصيرية ضدهم، بإغفال الجانب الفكرى والثقافى، أى الجانب المُتعلِّق بالوعى والإدراك والمعرفة، وهو الجانب الذى ركَّزت عليه الجماعة طوال تاريخها الذى يقترب من التسعين عامًا، باختراق كل مستويات العملية التعليمية، واستهداف الأطفال الصغار منذ دخولهم «الكتاتيب» فى القرى، والتدرُّج معهم فى التنشئة على مبادئ الإخوان، سنة بسنة، حتى يشبُّوا على الطوق، ويصبحوا إخوانًا موتورين، كارهين لأرضهم، وحاملين لأفكارهم المتغطرسة والمتعالية على الوطن وترابه!
ومن العبث أن تظل هذه الثغرة مفتوحة، بعد تجربة بلادنا مع الإخوان وتوابعها، لكى ينفذ منها السم التكفيرى والإرهابى لعقول أطفالنا وشبابنا ونحن عنه غافلون، ولعلى أُذكّر بالمثل الدارج المعروف: «التعليم فى الصغر كالنقش على الحجر»، ومغزى هذا المثل أن أغلب هؤلاء الأطفال قد نُقشت على خلفية عقولهم شعارات الإخوان وأفكارهم، حتى تلك التى كانوا يرددونها دون وعى أو إدراك حين قُبض عليهم.
ومن أوجب الواجبات أن ننتبه لهذا الوضع الصعب، وأن نُحسن قراءة خطورة ودلالات هذا الحدث الجلل، حتى لا نُجبر على أن ندفع ثمنًا باهظًا لقاء غفلتنا فى الغد المنظور.