رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حسن البنا.. إمام خوارج العصر


حينما عاقب الله إبليس الرجيم وطرده من رحمته لم يكن ذلك لأن إبليس رفض السجود لآدم فحسب، ولكن أيضًا لأن إبليس ادعى الخيرية لنفسه فقال «أنا خير منه» لذلك حذرنا الله فى القرآن الكريم من أن ينسب المرء لنفسه التقوى، فقال «فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى»، ثم أوصانا الله ألا نقع فى أخطاء الأمم السابقة فقال لنا «وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى تلك أمانيهم * قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين»، ومع ذلك خرجت علينا جماعة الإخوان ذات يوم من أيام سنة ١٩٢٨ وهى تحمل فى نفسيتها غرورًا وزعمًا بأنها هى الأتقى، وأن أفرادها هم أهل الجنة لأنهم أمة ناجية.
ولكن الأدهى من ذلك أن تلك الجماعة صنعت من حسن البنا نبيًا ورسولًا، ولا أقول هذا من باب المبالغة ولكنه الواقع الذى تشهد عليه الأحداث التى مرت على تلك الجماعة، فمما لا شك فيه أن حسن البنا عند الإخوان هو فى مصاف الأنبياء، وما ذلك إلا لأن شخصيته كانت مؤثرة فى أتباعه، فمعظمهم كان قليل الثقافة والفكر، كانوا صغارًا خاملين جهلاء وكان هو أعلى منهم همة وقدرة ففتنوا به واعتبروه الإمام المهدى أو أعلى درجة، وهو فوق ذلك صنع لنفسه فى أذهانهم صورة ملائكية، فقد صوَّر نفسه كإمام تجرى الخوارق على يديه، ففى كتابه «مذكرات الدعوة والداعية» يقول عن أمر شق عليه عندما كان طالبًا، ذلك أن امتحانه فى معهده كان على وشك الانعقاد وهو لم يستذكر دروسه بعد، فحدث كما يقول: «لا زلت أذكر أن ليلة امتحان النحو والصرف رأيت فيما يرى النائم أننى أركب زورقًا لطيفًا مع بعض العلماء الفضلاء الأجلاء يسير بنا الهوينا فى نسيم ورخاء على صفحة النيل الجميلة، فتقدم أحد هؤلاء الفضلاء، وكان فى زى علماء الصعيد، وقال لى: أين شرح الألفية لابن عقيل؟ فقلت: ها هو ذا، فقال: تعالَ نراجع فيه بعض الموضوعات، هات صفحة كذا، وصفحة كذا، وأخذت أراجع موضوعاتها حتى استيقظت منشرحًا مسرورًا، وفى الصباح جاء الكثير من الأسئلة حول هذه الموضوعات فكان ذلك تيسيرًا من الله تبارك وتعالى»، ونجح حسن البنا فى الامتحان وتفوق فيه بسبب أن الله أرسل له فى المنام من يذاكر له الدرس الذى لم يقرؤه، لم يرسل الله له رجلًا عاديًا، ولكن أرسل له بعض العلماء الفضلاء الأجلاء! فكان الدرس الخصوصى! وكان الغش عن طريق ملائكة المنام، وكان النجاح! أما من ذاكر واجتهد طوال العام فلم تأت له ملائكة المنام لتغششه الامتحان، ولماذا تأتى له وهو ليس حسن البنا؟!!
وبذلك نستطيع القول بتأكيد أن إحساس البنا بذاته، وشعوره بالعظمة، وغروره ونرجسيته كان ظاهرًا حين أطلق على نفسه لقب «الإمام» حينما كان لا يزال فى مقتبل الشباب، ولكنه أيضًا حينما عاش فى وهم هذه الإمامية كان أن قام بتوريثها لأتباعه، فيقول محمود عساف سكرتير حسن البنا فى مذكراته ناقلًا كلمات قالها له البنا «انظر يا محمود إن الإيمان بالإسلام يقوم على شهادتين: لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولا تصلح الشهادة الأولى وحدها ليصير الشخص مسلمًا، ذلك لأن النبى، صلى الله عليه وسلم، يتجسد الإسلام فى شخصه، وبالتالى يجب أن يكون الإيمان بالفكرة وصاحبها معًا فلسنا جمعية ولا تشكيلًا اجتماعيًا ولكن نحن دعوة فلا بد من الإيمان بها والسير على نهج داعيتها والعمل على تطبيق أفكاره».
وضع حسن البنا نفسه فى مصاف النبى، صلى الله عليه وسلم، فلطالما أن إسلام المرء لا يتم إلا بإيمانه بالرسول، صلى الله عليه وسلم، فإن إيمان الإخوانى لا يتم إلا إذا آمن بحسن البنا، وضع البنا نفسه فى مقام النبى، ووضع كلمة الدعوة فى مقام الإسلام، وعلى هذا الأمر سار الإخوان، فهم يقولون دائمًا عن حسن البنا إنه «صاحب الدعوة» وكأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، تنازل عنها للبنا، وسبحان الله! مرة يقول فريق من الشيعة إن «الدعوة كانت لعلى بن أبى طالب» ومرة يقول الإخوان «إن البنا هو صاحب الدعوة» وكأن هناك تنازعًا فى ملكية الدعوة.
ولأن البنا فى ضميره وضمير الإخوان هو صاحب الدعوة، لذلك يجب أن يكون فهمه للإسلام عندهم هو الفهم المعتمد الذى لا تجوز مناقشته أو الاختلاف فيه، وهذا هو ما أكده البنا لأعضاء الجماعة، إذ أوضح لهم أن الإسلام لا يُفهم إلا فى حدود الأصول العشرين التى وضعها لهم، لا يجوز لهم أن يضيفوا لها أو أن يحذفوا منها، فإذا ما أرادوا فهم الإسلام فيجب أن يطرقوا باب البنا الذى معه مفاتح الفهم وحده، ولتأكيد هذا قال فى تفسير ركن «الفهم» الذى هو أحد أركان البيعة: «إنما أريد بالفهم أن توقن بأن فكرتنا إسلامية صحيحة، وأن تفهم الإسلام كما نفهمه فى حدود الأصول العشرين الموجزة كل الإيجاز».
وحينما وجد أن الجماعة ضمت بعض الشباب الذى يفكر ويناقش ويجادل أراد أن يخضعهم لطريقته وأسلوبه وفهمه هو وحده، ولمَ لا؟ وهو عندهم الإمام المهدى الذى أرسله الله ليجدد للأمة أمر دينها! هو الإمام الذى لديه كنوز من المعرفة الربانية كنزها لنفسه وأعطاها لأصحابه القطرة وراء الأخرى! تبًا لهذه العقول التى صدقت تلك الخرافات البناوية، لذلك قال فى أحد الأيام للشيخ الشاب الدكتور عبدالعزيز كامل عندما وجده يفكر «أنا أعلم نوع تفكيرك وتمسكك بالسنة، وستأتى أيام وظروف قد نختلف فيها، وأود فى هذه الظروف أن تترك رأيك لرأيى، ألا تطمئن إلىَّ».
وبذلك أغلق البنا على المسلمين أبواب الفهم، واحتكرها لنفسه، وما ذلك إلا لأنه فى نظر نفسه وعند أتباعه «الإمام المهدى» الذى طال انتظاره، والذى يصحح للناس أفهامهم الدينية ويجعلهم قالبًا واحدًا، أما أولئك الفقهاء الكبار الذين اجتهدوا ووضعوا قواعد ذهبية فى تنوع الأفهام وتعدد الصواب واختلاف الفتوى باختلاف الزمان والمكان، فأولئك ليست الجماعة منهم فى شىء، إذ إنهم لا يعرفون إلا حسن البنا وحده، ولا يفهمون غير أفكاره، ولا يتقربون إلى الله بالدعاء إلا من خلال الأدعية التى جمعها البنا وجعل منها أذكارًا للجماعة.
ولكى يسيطر البنا على أفراد جماعته استخدم الإيحاء معهم، فأوحى إليهم أنهم هم الجماعة المؤمنة، وأن باقى الأمة يعيشون فى ظلمات الجاهلية، وكانت طريقته فى هذا الإيحاء أن قام بتزكية إيمان جماعته على إيمان الأمة، حكم على القلوب، لم يحكم فقط على قلوب أفراد يعرفهم بأعينهم، ولكنه حكم على قلوب عباد الله من كل الأمة، فماذا قال وهو يخالف قول الله تعالى «فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى»؟ قال فى إحدى رسائله: «الفرق بيننا وبين قومنا أن الإيمان عندهم إيمان مخدر نائم فى نفوسهم لا يريدون أن ينزلوا على حكمه ولا أن يعملوا بمقتضاه، على حين أنه إيمان ملتهب مشتعل قوى يقظ فى نفوس الإخوان المسلمين»! وحين يتم تدريس هذه الرسالة للإخوان الجدد تنطبع فى ضمائرهم صورة سلبية عن الأمة وإيمانها المخدر الغائب، ويشعر الواحد فيهم بالزهو لأن إيمانه هو الإيمان الصحيح اليقظ، ألم يقل لهم حسن البنا ذلك!
وبين السطر والآخر فى رسائل البنا كان يقول: «دعوتنا إسلامية»، ثم يؤكد المعنى بألفاظ مختلفة، وبعد أن يترسخ هذا المعنى فى النفوس إذا بالبنا ينتقل بأتباعه نقلة نوعية، فيقول لهم: «نحن أصحاب دعوة ربانية، جماعتنا ربانية وعالمية»، ولأن جماعتهم ربانية كان لا بد أن ينتقل البنا بجماعته إلى طور آخر من أطوار النقاء العقائدى، إذ يقول لأتباعه فى رسالة أخرى: «إذا سألكم الناس ما أنتم أيها الإخوان؟ إننا لم نفهمكم بعد، هل أنتم طريقة صوفية؟ أم مؤسسة اجتماعية؟ أم حزب سياسى؟ فأجيبوهم: نحن الإسلام».
وهكذا، أفراد جماعة الإخوان المُضللون فى يقينهم أنهم يعيشون على وهم أسطورى بأنهم تحولوا من بشر عاديين يرد عليهم الخطأ والصواب إلى نور ربانى، وإلى دين إلهى، فقد أصبحوا إسلامًا! وهل يقع الإسلام فى الخطأ؟! هذا يستحيل، إنما يقع الخطأ من آحاد الناس! وهم دين لا ناس، وكان من آفة ذلك التصور الشيفونى أن قام البنا بإلغاء الفارق بين الدين والتدين، الإسلام والمسلم، ومن أجل هذا لا تتعجب حين يقول الإخوان عن البنا إنه إمام ربانى، ولا تأخذك الدهشة حينما يقول محمد مرسى عام ٢٠٠٩ فى حوار له عن سيد قطب: سيد قطب هو الإسلام.
وليس لك أن تمتعض إذا قرأت لمفتى الإخوان الراحل محمد عبدالله الخطيب وهو يكتب مقالًا عنوانه: «حسن البنا رضى الله عنه».
لذلك كان مقتل حسن البنا نكبة وقعت على رءوس الإخوان، فبكوه وأسرفوا فى البكاء، فهذا هو عمر التلمسانى يقول بعد مقتل البنا «وكف القلب المعلق بالعرش عن النبض فى هذه الحياة لينبض فى مقعد صدق عند مليك مقتدر».
وبذلك يكون الإخوان قد دخلوا فى علم الله، وقطعوا بالغيب الذى لا يعرفه إلا الله، لم يقل التلمسانى وهو يرثى شيخه كلمة تفيد بشرية أفهامنا وعدم معرفتنا بالغيب مثل «نحسبه فى مقعد صدق عند مليك مقتدر والله حسيبه»، ولكنه قطع بمكانه ومكانته عند الله! ولمَ لا؟ أليس هو فى ضمائرهم الإمام المهدى.
ومرت سنوات والإخوان يزدادون تقديسًا للبنا فيقرنون اسمه بعبارة «رضى الله عنه»! ويقولون دائمًا عندما يستدلون بكلامه: «قال الإمام الشهيد»! إلى أن جاء يوم فأصبح البنا هو الإمام المفترى علينا بجماعة ليس لها دين وليس لها وطن، ولكن لها إمام، ولن يكون لها إن شاء الله «أمام» أو مستقبل لأنها مضافة إلى الماضى.