رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عصام زكريا يكتب: ذكريات عن الثقافة والفن والحب فى نصف قرن (الحلقة الثالثة)

عصام زكريا
عصام زكريا

غريبة هى ذاكرة الإنسان، تحتفظ بأشياء تبدو صغيرة تافهة، فى حين تُسقط أحداثًا جسيمة فارقة فى حياة المرء ومن حوله.
لا يغيب عن ذاكرتى مثلًا مشهد لعبى الكرة مع الزملاء فى فناء المدرسة الابتدائية الصغير. الطفل الذى كنته ينسى نفسه حتى يتملكه فجأة شعور طاغ بالعطش.. جفاف بالحلق والجسم ورغبة فى الماء تغطى على أى إحساس أو تفكير آخر. يجرى الطفل نحو صنابير المياه الملحقة بحائط فى آخر الفناء. ينحنى ويفتح أحد الصنابير، تلك الصنابير النحاسية الصفراء الكبيرة ذات الفتحات الواسعة. يندفع الماء قويًا متدفقًا أمام عينيه، لكنه بدلًا من أن يشرب، ينشغل بتأمل قوام المياه، وشعوره بالظمأ، ولذة الشرب المنتظرة، يتوقف لثوان طويلة قبل أن يمد يديه وفمه تحت المياه، مطيلًا لحظة العطش لأقصى ما يستطيع، قبل أن يطلق العنان لغريزته التى تتلهف للإشباع.
ربما كانت هذه أقدم ذكرى «حسية» بقيت فى ذاكرة الطفل. لعلها ترتبط بذكريات أقدم لمرحلة عمرية لم تكن فيها الذاكرة قد تشكلت بعد. أو لعله فقط هذا الشعور بالظمأ.. والمتعة التى تعقبه بالارتواء.
لا ينسى كذلك لحظات زيارة بائع المجلات القديمة فى شارع المحطة بالجيزة، الذى كان متخصصًا فى مجلات الأطفال المصورة «الكوميكس»، يتذكر «الفرشة» التى تمتلئ بأكوام من المجلات المصنفة حسب أسمائها وأنواعها، وبهجة التصفح، كما لو كان يتقلب فى بحيرة، بين الأعداد والصفحات، ليختار منها الجديد والمثير، قبل أن ينتهى من جولته ويعود إلى الواقع من جديد. يعاود الإمساك بيد أمه المنتظرة بصبر، ليعودا إلى البيت حاملًا كومة المجلات التى حصل عليها كمن يحتضن كنزًا!
إلى اليوم.. تتغير سرعة نبضات قلبه كلما مر بمكتبة أو بائع جرائد ومجلات على الرصيف.. ومهما كان متعجلًا، يتوقف ليلقى ولو نظرة عابرة، لعل هناك وعدًا ينتظره بكتاب أو مجلة جديدة.
كان عمره سبع سنوات تقريبًا عندما مر بالصدفة بجوار «كشك» صغير قريب من بيتهم، حين لمح ذلك الكتاب الصغير بغلافه الملون الجذاب، الذى يحمل لوحة داخلها لوحة صغيرة لسيدة أرستقراطية جالسة، وبجوار الإطار سلة صغيرة يجلس داخلها كلب أبيض صغير معلق برقبته طوق أحمر بـ«فيونكة» حمراء، وقد كتب بالخط العريض أعلى الغلاف: «لغز المنزل رقم 98»، وبجوار العنوان عدسة مكبرة ذات يد سوداء وعلى العدسة بصمة أصبع، وفوق العنوان بخط صغير كتب «قصص بوليسية للأولاد». وقف يراقب الغلاف: تجذبه الصورة بألوانها، وغموضها، وكلمات «لغز» و«بوليسية». كان ثمن الكتاب بضعة قروش، جمع ما فى جيوبه، لعله كان ذاهبًا لشراء احتياجات للبيت أو بعض الحلوى لنفسه وإخوته ودفعها للبائع. «لغز المنزل رقم 98» هو أول كتاب يشتريه بنفسه، ومنذ تلك اللحظة، ستحتل قصص «المغامرون الخمسة» مكانة مجلات «الكوميكس»، قبل أن يتعرف على غيرها من السلاسل البوليسية، ثم غيرها من سلاسل وأنواع الكتب، وتبدأ كل مجموعة جديدة فى إزاحة القديمة تدريجيًا.
على عكس أبطال الكوميكس الخارقين، تعتمد «المغامرون الخمسة» على أبطال صغار عاديين: توفيق «أو(تختخ)» ومحب وعاطف ونوسة ولوزة وكلبهم زنجر، مجموعة من الصبية الأذكياء يحلون أسرار الجرائم الغامضة بالعقل والحيلة، وليس بالقوة البدنية.
أصبح «تختخ» مثلى الأعلى لسنوات. تعلمت منه كيف أصنع الحبر السرى من عصير الليمون، وكيف أفك الشفرة، وكيف أهرب من غرفة مغلقة باستخدام أنبوبة قلم وورقة جريدة، وكيف أكتشف الكذب والمنطق الفاسد مستخدمًا التحليل والاستنباط والاستنتاج «قبل أن أعرف (ديكارت) بسنوات»، ولكننى فشلت فى التنكر الذى كان يجيده تختخ بشكل استثنائى.
فيما بعد، بعقود، عرفت أن قصص «المغامرين الخمسة» مقتبسة من سلسلة «المكتشفين الخمسة» The Five Find- outers للكاتبة الإنجليزية إنيد بلايتون، من الشخصيات وأسمائها إلى أحداثها وحتى عناوينها. كانت صدمة كبيرة، تضاف إلى صدمات مماثلة كثيرة فى مجال الأدب والسينما والموسيقى.. كأننا نسبح فى ثقافة مقتبسة بالكامل، يندر فيها الابتكار والإبداع.. لكن على الأقل، كان محمود سالم- كاتب «الألغاز»- مثل غيره من مقتبسى عصره، موهوب ومجتهد فى التعريب والتمصير، وإعادة إنتاج الأعمال كما لو أنها مصرية أصيلة.. على عكس مقتبسى اليوم الذين تبدو أعمالهم كترجمات ركيكة رديئة.
ذات يوم، كانت تزورنا إحدى الجارات بصحبة ابنتها. كانت شابة صغيرة تكبرنى بسنوات، لما رأت ولعى بالقراءة أخبرتنى أنها أيضًا تحب القراءة، واتفقت معى على تبادل الكتب. أخذت منى إحدى المغامرات وعادت لى برواية عاطفية من سلسلة «روايات عالمية» بعنوان «أوهام الحب». لم أكن أحب روايات ولا أفلام الحب. عندما كان يصحبنا أبى لمشاهدة أحد الأفلام العاطفية المصرية، كنت أرفض الدخول مع بقية الأسرة، وآخذ ثمن التذكرة وأذهب لواحدة من دور العرض المجاورة المتخصصة فى أفلام الأكشن.. لكننى من أجل جارتنا الحسناء قرأت «أوهام الحب»، أو حاولت، ولم أستسغ منها شيئًا.. ما زلت إلى اليوم، تجذبنى القارئات الذكيات أكثر من قنبلات الإغراء.
فى المدرسة الابتدائية المشتركة شعرت بأول بوادر حب فى حياتى تجاه رفيقة «الدكة». كانت طفلة متوقدة الذكاء، الأولى على الفصل، ابنة جزار معروف فى حى المنيرة. لا أعلم كيف- لإننا لم نكن نفعل أى شىء غير عادى- اكتشف أشقياء الفصل أن هناك شيئًا غير عادى يسرى بيننا، فأشبعونا سخرية، مستخدمين كلمات «قبيحة» لم أكن أفهم معناها، ولعلهم لم يكونوا يفهمون معناها أيضًا، ولكنهم سمعوها من الكبار. وقد غمرنا الخجل أنا والصبية الصغيرة المسكينة، حتى تركت مكانى بجوارها لأجلس على «دكة» خلفية بعيدة.. إلى الآن أكثر ما يغضبنى فى هذا المجتمع البائس هو «حشرية» الناس وتدخلهم فى الحياة العاطفية والشخصية للآخرين بوقاحة منقطعة النظير!
هؤلاء الأشقياء هم الذين لفتوا نظرى إلى «الجيب» القصير الذى ترتديه معلمة «الألعاب الرياضة»، وكانوا يتعمدون إسقاط الأشياء لينحنوا وينظروا إلى ساقيها الرياضيتين الممشوقتين. كنا فى نهاية عصر المينى، والميكروجيب.. فى بداية السبعينيات.. قبل الانقلاب العظيم بسنوات.
مع ذلك، كانت المدرسة الابتدائية المشتركة جنة للبراءة مقارنة بالمدرستين الإعدادية والثانوية اللتين تقتصران على البنين فقط، وكل المدارس كانت جنة للبراءة مقارنة بالجحيم الذى أصبحت عليه المدارس اليوم.
فى الإعدادية اكتشف أشقياء الفصل ذات يوم أن أحد المدرسين يحمل بين طيات كراساته صورة لامرأة عارية تحمل أرنبًا بين نهديها، فظل مثارًا للنكات والضحكات طوال العام. كان يسير فى الشارع بعد المدرسة عندما صاح الأشقياء خلفه: «يا بخت الأرنب!!».
لم يكن الإنترنت، ولا الفضائيات، ولا شرائط الفيديو قد ظهرت بعد. السينما، فقط، وقليل من الكتب والمجلات، كانت بوابتنا إلى عالم الحواس.
لا أقول إن مشاهدة الأفلام فى دور العرض السينمائى كانت شيئًا مثاليًا. فهذه الدور، خاصة سينمات الدرجة الثانية والثالثة كانت فى حالة سيئة، نسخ الأفلام مستهلكة بليت من فرط الاستخدام، أو فى أفضل الأحوال تعانى من بعض المشاكل صورة وصوتًا، وصالات العرض تعانى من الإهمال: مقاعد غير مريحة وأحيانًا محطمة، قاعات بلا مكيفات باردة شتاء حارة صيفًا، يسرى فى هوائها عطن روائح العرق والدخان، حيث كان التدخين مسموحًا به، وضجيج الباعة الجوالة داخل القاعة. أتذكر تحديدًا بائعًا عجوزًا ينطق السين شينًا، يتجول طوال الوقت بين المقاعد صائحًا: «شجاير، بيبشى، شاندوتشات».
بالرغم من ذلك كان لمشاهدة الأفلام على الشاشات العملاقة داخل هذه الصالات سحر من نوع غريب.. لا وجود له الآن فى زمن المالتى بليكسيس والدى سى بى والصوت الديجيتال.. أو لعلها عواطف الطفل الذى كنته فحسب. ربما يشعر أطفالنا بمثل هذا السحر أمام شاشات التابلت والمحمول!؟.
أول فيلم أتذكر أننى شاهدته لم يبق منه سوى لقطات غائمة: بطل كاوبوى يختفى خلف تبة جبل ويطلق النيران على أعدائه، ورجل يسقط من فوق أحد المبانى بعد إصابته برصاصة البطل. قلت لنفسى: هل يقتلون كل هؤلاء من أجل صناعة فيلم؟
لم يكن لدينا تليفزيون بعد، وحتى عندما جاء وقلب أركان حياتنا رأسًا على عقب، لم يكن يعرض سوى عدد محدود من الأفلام أسبوعيًا، ربما فيلمين أو ثلاثة فحسب.
على شاشات دور العرض، التى يعج بها حينما شاهدت مع الأسرة، أو مع أبى، أو أخى، أو بعض الرفاق، وغالبا بمفردى، أفلامًا مصرية وأجنبية، لا حصر لها ضاع معظمها من الذاكرة، وبقى بعضها، لا أعلم لماذا بقيت، ولا لماذا طار غيرها. من هذه الأفلام: «بائعة الخبز» و«أعز الحبايب» من نوع الميلودراما البكائى، «أبوحديد» و«ابن الشيطان» و«رصيف نمرة خمسة» لفريد شوقى، بطلنا المصرى الخارق، وأفلام عبدالحليم حافظ، معبود بنات وشباب جيلنا. تأثرت كثيرا بـ«أيام وليالى» و«الخطايا». إيمان ونادية لطفى ساحرتان، وعبدالحليم يستولى على قلبك وتعاطفك من النظرة الأولى، وفى الفيلمين علاقة معقدة مع الآباء، تخاطب مستويات عميقة غير مرئية من وعى الطفل.. وطبعا صوت عبدالحليم والأغانى والموسيقى والشجن كله.
مع ذلك كان للأفلام الأجنبية الأفضلية والمساحة الأكبر من مشاهداتى، سواء الأمريكية أو الهندية أو الهونج كونجية!.
«سانجام» هو اسم أول فيلم هندى يعرض فى مصر فى منتصف الستينيات. حقق نجاحًا هائلًا، فجاء الفيلم الهندى الثانى «سوراج»، مصحوبًا بالجملة الدعائية «أقوى من سانجام»، التى باتت مصطلحًا شعبيًا فكاهيًا. شاهدت «سوراج» ولكن لا أذكر منه سوى لمحات من لقطات داخل قصور وقلاع ومعارك السيوف واستعراضات وأغان لا حصر لها، ومشهد نهاية مثير تنجرف فيه البطلة فوق قارب صغير نحو الشلالات بينما سوراج والشرير يتقاتلان فوق إحدى الهضاب.. كما أذكر شيئًا غريبًا جدًا هو أن الشخصيات كانت تنطق بعض الكلمات العربية، وبالتحديد كلمة «انتقام» التى تعنى بالهندية أيضا «انتقام». هل الهنود أبناء عمومتنا؟.
لم أكن أعلم وقتها أن هناك كلمات كثيرة مشتركة بين الأردية والعربية.. ولم يكن معظم المشاهدين يعرفون ذلك، ومن ثم كانوا يصابون بالدهشة وتتعالى ضحكاتهم عندما يسمعون هذه الكلمات فى الأفلام.
أفلام بوليوود مثال نموذجى على أن السينما فن «حسى» بالأساس. الفيلم البوليوودى المعتاد هو وليمة كبيرة للحواس: من الألوان الباذخة، إلى الرقصات السريعة المثيرة، إلى الموسيقى الشجية والأصوات الناعمة الحالمة، وحتى مشاهد الأكشن والمطاردات ذات الخدع والمبالغات الأسطورية.. لمدة تقترب من، أو تزيد على، الثلاث ساعات.
الفيلم الهندى الذى قلب رأسى، ورأس معظم المصريين، كان «الفيل صديقى»، الذى شاهدته عدة مرات، مرة مع الأسرة، وباقى المرات مع الأصدقاء أو بمفردى. «الفيل صديقى» هو الذى دشن نجاح السينما الهندية البوليوودية فى مصر، وفتح الباب على مصراعيه أمام عشرات الأعمال الهندية خلال السنوات اللاحقة.
كان «الرأس الكبير» أول فيلم «قتال يدوى» أو «كاراتيه»، كما كنا نطلق على هذه النوعية، يعرض فى مصر فى بداية السبعينيات، عقب موت بطله الأسطورى بروس لى. النجاح المذهل للفيلم فتح الباب أمام عشرات الأعمال الأخرى التى كانت تصنع فى هونج كونج. ومن أشهرها وأكثرها نجاحًا «الأكتع ملك السيف» اسمه الأصلى «المبارز ذو اليد الواحدة» و«القبضة الحديدية»، اسمه الأصلى «ملك الملاكمة»، أو «أصابع الموت الخمسة». كل فيلم من هذه الأعمال شاهدته عدة مرات.
أفلام «الويسترن»، أو «الكاوبوى»، كما كنا نطلق عليها، كانت تحظى أيضا بشعبية طاغية، خاصة تلك النوعية التى يطلق عليها «إسباجيتى ويسترن»، التى كانت تصور فى إيطاليا، ولعب بطولة معظمها النجم كلينت إيستوود.
كان لإيستوود وسامة فاتنة وحضور ساحر على الشاشة، لا يتحدث تقريبًا، ولا يتحرك كثيرًا، ولكن حين يفعل فهو مثل الكوبرا، التى تنقض بسرعة وقوة لا تبارى.
الشغف بنجوم السينما فى تلك الأيام البعيدة لم يعد له مثيل الآن. كانت هوليوود تودع «نظام النجوم»، الذى شهد عصره الذهبى خلال العشرينيات وحتى نهاية الخمسينيات، لكن نجوم الأكشن الأمريكى والميلودراما الهندية والكونغ فو الصينى كانوا يضيئون سماء حياتنا العقلية والعاطفية بوعود وخيالات لا حد لها. فى الخيال تقمصت شخصية كلينت إيستوود وبروس لى وتشارلز برونسون، الذى لعب بطولة عدد كبير من الأفلام منها سلسلة أفلام متأخرة بعنوان «غضب الحليم» (عنوانها الأصلى هو Death Wish أو «الرغبة فى الموت»!).
معظم هذه الأفلام تتمحور حول «ثيمة» الانتقام. يلعب الانتقام دورًا كبيرًا فى التنفيس عن عواطف المراهقين والبسطاء، ويلعب «التماهى» مع (أو تقمص) شخصيات أبطال هؤلاء الأفلام دورًا كبيرًا فى المكانة التى يحظى بها نجوم السينما فى القلوب. لكن أهم ما يفعله النجم حقًا هو أنه يشكل شخصية عشاقه. بسبب أبطال «الكوميكس» شغلت فكرة تحقيق العدالة جزءًا أساسيًا من تكوينى، وإيمانًا عميقًا لا يتزعزع بأن للعدالة رب- أو سوبر هيرو- يحميها، حتى لو كانت التجربة تثبت لى كل يوم أن العالم غير عادل.
من أبطال الكوميكس يتعلم الأطفال والمراهقون أن يتصالحوا مع شخصياتهم المركبة، وخيالاتهم غير الواقعية، ويكتسبون قناعة بأنهم قادرون على اجتراح المستحيل.
من أبطال السينما يتعلمون كيف يتكلمون ويسيرون ويمسكون بالسيجارة بطرف الفم، وكيف يتعاركون فيما بينهم، وكيف يحبون وكيف يتعاملون مع الجنس الآخر. لست متأكدًا إذا كان هذا التعلق الهوسى بنجوم السينما شيئًا جيدًا أم لا. لكننى أعلم أنه ساهم فى تشكيل معالم شخصيتى، وأن الصفات الجيدة لهؤلاء الأبطال كانت مثلى الأعلى.
أشعر بأننا كانت لدينا «قدوة» فى المدرسة وفى السينما وفى الكتب والمجلات التى نقرأها. لا أعلم من أين يستمد أطفال ومراهقو اليوم قدوتهم؟.
ذات يوم كنت أغادر دار العرض عقب مشاهدتى فيلم «عبده موتة» لمحمد رمضان، عندما لاحظت أن الصبية منفعلون ويتسابقون على تقليده، كما كنا نفعل عقب مشاهدة فيلمًا لبروس لى أو فريد شوقى. وأمام السينما استوقفت سيارة أجرة فاقترب منى بعض هؤلاء الصبية يريدون أخذ التاكسى بدلًا منى، وردد أحدهم واحدة من عبارات محمد رمضان فى الفيلم يحذرنى من الاعتراض. لثوان ترددت، قبل أن أدرك أن الحل الوحيد هو مسايرة حالة التماهى التى وقع فيها هؤلاء وليس التصادم معها. ضحكت وقلت للصبى: «فيه إيه يا عم موتة؟ هتبلطج على معلمك؟ هى دى الجدعنة؟».. ضحك الصبى ورفاقه، وتركوا التاكسى لى. لحسن الحظ، كانت شخصية عبده موتة تحتفظ ببعض القيم الطيبة!.
السينما كانت أيضًا مدخلنا الوحيد لعالم النساء. من خلال هؤلاء البطلات المختارات بعناية، اللواتى يشبهن، ولكن لا يشبهن، النساء العاديات، تتشكل ذائقتك الحسية والجمالية. راكيل وولش فى «مليون سنة قبل الميلاد»، مثلا، مارلين مونرو فى «البعض يفضلونها ساخنة»، أورسولا أندراوس وبقية نساء، «دكتور نو» أول أفلام جيمس بوند. هذه أفلام كانت تكتسب شعبيتها من فتنة نسائها ومساحات العرى من سيقانهن وصدورهن، التى تزيد الشاشة العملاقة من حضورها وهيمنتها.. لكننى كنت مفتونًا أكثر بالوجوه. لم أكن مثلًا مفتونًا بهند رستم أو سعاد حسنى مثل بقية الرفاق. فاتنات مراهقتى كن إيمان فى «أيام وليالى»، ليلى شعير فى «عائلة زيزى» (ثم فى «الصعود للهاوية» و«حدوتة مصرية» فى فترة لاحقة)، نجوى سالم بضحكتها الصاخبة ووجهها الفاتن فى مسرحيات التليفزيون، ومديحة سالم بشعرها القصير وصوتها الطفولى فى طفولتى، وماجدة الخطيب ومديحة كامل فى فترة لاحقة، ومن العالميات أودرى هيبورن، ودائما أودرى هيبورن، منذ أن شاهدتها فى «إجازة فى روما» مع جريجورى بيك.
بالنسبة لى الوجه الإنسانى هو أكثر الأشياء فتنة وسحرًا فى العالم. يمكننى أن أنسى الأسماء والأرقام، ولكن ذاكرتى تحتفظ دائمًا بالوجوه. لاحظت فى فترة لاحقة من حياتى أن معظم رسوماتى الطفولية كانت تتمحور حول الوجوه. أتذكر الآن: فى طفولتى ودائمًا قبل أن يغلبنى النعاس، فى ذلك البرزخ الفاصل بين النوم واليقظة، كنت أتأمل السقف والحوائط، التى تلعب عليها الظلال وأتخيل الوجوه.. وجوه لا حصر لها، معظمها من شخصيات الأفلام أو المجلات المصورة: سينما ما قبل النوم التى ينسجها الخيال.