رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خمسون عامًا على رحيل عبدالناصر


فجأة تغيرت برامج الإذاعة والتليفزيون، من غير المعتاد إذاعة تلاوة القرآن الكريم فى ذلك الوقت! لم يفهم الطفل الصغير نظرات الحيرة والارتباك فى عيون الأب، تلك النظرات التى انتقلت بالتالى إلى الأم، هناك شىء غامض ومريب، يخرج السادات فى صوتٍ حزين ليعلن وفاة عبدالناصر.
صرخت الأم، احتبست مشاعر الأب، كان همه تجميع الأسرة فى المنزل الكبير، نزل إلى الشارع ليحضر أبناء وبنات أخته التى كانت تؤدى العمرة آنذاك، أحس الوالد أن الخطر قادم لا محالة، فلا بُد من تجميع أبناء الأسرة فى البيت الكبير، كانت كلمته التى ما زالت تتردد فى أذنى حتى الآن: «محدش عارف إحنا رايحين بكرة على فين».
صعد الوالد إلى الدور العلوى، اطمأن على أبويه، ونزل سريعًا ودخل إلى غرفته وحيدًا، احترمت والدتى حالته وحاجته إلى العزلة، لكن فضول الطفل لم يحترم ذلك، تسلل الطفل إلى غرفة أبيه، الظلام الدامس يكاد يبلع التفاصيل، يتعثر الطفل فى تلك العتمة، لم ينتبه الأب لوجود الطفل، هرول الطفل سريعًا من الغرفة، ارتمى فى حضن الأم، بفزعٍ شديد صاح: «ماما... ماما، بابا بيعيط». بكت الأم، وبفضول الأطفال سأل: «ماما، فيه إيه؟»، أجابت الأم: «عبدالناصر مات».
رغم مرور عشرات السنين، تداعت إلى رأسى كل هذه الذكريات مع مكالمة الصديق الصحفى الكبير «أسامة سلامة» وسؤاله- أو عتابه- لماذا لم نحتفل أو تحتفل مصر، بل والعالم العربى بذكرى خمسين عامًا على وفاة عبدالناصر؟! يا الله، مرت خمسون سنة وما زالت الأسئلة بلا إجابات.
أنا مؤرخ، ولم أعد من قبيلة عبادة الزعماء، ولكن هل نسينا بالفعل عبدالناصر؟ هل تغير الزمن؟ لكن الأسئلة ما زالت هى هى.
لا أدرى لماذا نتحارب عند الحديث عن زمان ناصر، يتحول الحوار إلى «عركة قهاوى»، مات عبدالناصر يا سادة منذ خمسين عامًا، تعالوا إلى الحوار الهادئ ومراجعة التاريخ.
ووجدتنى بتلقائية شديدة أعود إلى ما كُتِب عن عبدالناصر لحظة وفاته فى سبتمبر ١٩٧٠؛ ربما قدر عال من الرومانسية، ولحظة الصدمة، وموت الأب، والخوف من القادم. هل أتذكر «نزار قبانى» الذى نقد عبدالناصر بعد هزيمة ٦٧، وبكاه فى سبتمبر ٧٠؟ أليس هو القائل: قتلناك يا آخر الأنبياء.
وأعود إلى ما كتبه المفكر الكبير «غالى شكرى» عن لحظة الوفاة، وتخوف اليسار المصرى من القادم بعد ذلك، رغم خلافه مع عبدالناصر:
«من هنا كان عبدالناصر يمثل فارس الأمل لهذه الجماهير الضائعة التى خرجت يوم جنازته فى هدير تراجيدى نائح، لأنها هى نفسها كانت تعيش فى حياتها بطولة تراجيدية خارقة جسدتها إلى كلمات بسيطة لإنسان بسيط غداة الهزيمة- هزيمة ٦٧: إنى أحس بشىء غريب يكوى أعماقى أصارحك به، هو أن تأييد هذا النظام يُشعرنى بأننى خائن، كما أن معارضة هذا النظام تملؤنى بنفس الشعور بالخيانة... فهل انتحر؟ تلك هى البطولة التراجيدية حقًا، نصفك مع، ونصفك ضد، وقلبك المشطور ينزف على صليب الضياع».