رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قصة الأسقف الزاهد فى المناصب الرسمية للكنيسة «3-3»


.. ومن أهم قرارات مجمع نيقية هو القانون ١٥ الذى جاء نتيجة تجارب ونظرة بعيدة، إذ جاء فيه: «إنه من كثرة السجس والتشويش والمشاجرات الحادثة، لقد استبان لنا أن نرفع بالكلية تلك العادة الواقعة بخلاف القانون فى بعض النواحى، وهو أنه لا ينتقل أسقف من مدينة كرسيه إلى مدينة أخرى».
وحدث فى انتخابات ١٩٥٩ أن أصر الأنبا أثناسيوس، مطران بنى سويف وقائمقام البطريرك فى تلك الفترة، على التمسك بقوانين مجمع نيقية ومنع المطارنة والأساقفة من الترشح لأسقفية الإسكندرية «أى يحمل لقب بابا وبطريرك الكرازة المرقسية»، ولأنه كان أمينًا على التمسك بقوانين الكنيسة بفهم وشجاعة، فقد أعد الرب للكنيسة راهبًا تقيًا وقديسًا بالحقيقة، أدار دفة الكنيسة بحكمة وروحانية، هو البابا كيرلس السادس، البطريرك ١١٦. ثم حدث بعد ذلك فى انتخابات ١٩٧١ و٢٠١٢ أن تصارع المطارنة والأساقفة على الترشح للكرسى البابوى، وأمام ضعف شخصية القائمقام فى ذلك الوقت مع عدم درايته الكافية بقوانين الكنيسة حدث ما حدث وتمكن الأساقفة من الوصول لأسقفية الإسكندرية.
نعود لكرسى القسطنطينية الذى كانت فيه الأريوسية تهدد سلام الكنيسة وتزعزع إيمانها، أن طلب رجال الإكليروس والشعب من الإمبراطور «ثاؤدوسيوس» الكبير اختيار القديس «غريغوريوس» لكرسى القسطنطينية عوضًا عن «ديموفيلوس» الأريوسى. وفعلًا استجاب لهم الإمبراطور «ثاؤدوسيوس» وذهب بصحبة القديس «غريغوريوس» يوم ٢٦ نوفمبر سنة ٣٨٠م إلى كنيسة القديسة صوفيا وسط احتفال كبير. وبينما كان الإمبراطور يأخذ مكانه المُعد له، تسلل القديس «غريغوريوس» إلى شرقية الكنيسة وجلس بجوار كرسى الأسقفية، وتصاعدت الأصوات: «غريغوريوس أسقفًا» ولكن القديس «غريغوريوس» الإنسان التقى والمتواضع والزاهد فى المناصب ظل فى مكانه صامتًا حائرًا، مما لفت إليه نظر الإمبراطور، وقام أحد الأساقفة الحاضرين وبدأ صلاة القداس نيابة عن القديس «غريغوريوس» وذلك كما جاء فى كتاب «دوشين». وأذكر فى كل مرة كنت أذهب فيها لزيارة كاتدرائية أيا صوفيا «أو القديسة صوفيا» بمدينة إسطنبول «القسطنطينية» أتذكر المواضع التى سارت عليها أقدام القديس «غريغوريوس» المبارك بالحقيقة.
قابلته بعد ذلك مشقات ومتاعب كثيرة وهو يقوم بواجباته فى كنيسة القديسة صوفيا، وفى إحدى المرات تعرض للاعتداء على حياته، وظل يترقب الوقت الذى فيه يبت فى أمره، عندما يجمع الإمبراطور مجمعًا مسكونيًا يصدر قرارًا بصفة نهائية للبت فى مسألة أسقفية القسطنطينية. كان من المفترض أن مسألة الموافقة على تعيين القديس «غريغوريوس» فى منصب أسقف القسطنطينية مسألة شكلية للأسباب الآتية:
- قبِل رسامة الأسقفية من القديس «باسيليوس» رغمًا عن إرادته، وكان معروفًا لدى الجميع أنه لم يتبع هذه الرسامة أى قيام بمهامها الرسمية، بل استُعملت قوة الجند ضد أسقف «سازيما» الذى احتج لعدم تمكنه من القيام بوظيفته.
- عندما قام بمهام الأسقفية فى «نازينس» فإنما كان ذلك لمعاونة والده المُسن، ولكن لم يكن أسقفًا لها.
- لا يستطيع لأحد القول بأنه قد انتقل من كرسيه إلى كرسى آخر، فقد أتوا به إلى كرسى القسطنطينية من وحدته وليس من أسقفية أخرى. كان كل ذلك واضحًا تمام الوضوح أمام الجميع.
ولكن بالرغم من أن القديس «غريغوريوس» رأس مجمع القسطنطينية الثانى المنعقد عام ٣٨١م لبحث هذا الموضوع، وبالرغم من صداقته للبابا تيموثاؤس الأول «٣٧٩ - ٣٨٥م» بابا الإسكندرية ٢٢ الذى حضر ذلك المجمع مع عدد من أساقفة مصر، وبالرغم من قداسة «غريغوريوس» المشهود لها من الجميع- فلم يستطع هذا المجمع أن يمس قانونًا من قوانين مجمع نيقية المقدس، وكان فى ذلك ينظر إلى بعيد، إلى تثبيت قواعد الكنيسة على تقاليد ثابته لمنع الشقاق على مر الزمن، فحكم المجمع بتنحية القديس «غريغوريوس» عن كرسى القسطنطينية وفقًا للمادة ١٥ من قوانين مجمع نيقية، واختاروا بدلًا عنه موظفًا مدنيًا! من أهالى القسطنطينية يُدعى «نيكتاريوس»، ولم يكن قد عُمّد بعد! فعمدوه.
يا لروعة أساقفة ذلك العصر المبارك الذى فيه كانوا متمسكين بوعى شديد بقوانين كنيستهم المقدسة بسبب التقوى الشديدة التى كانوا يمارسونها، فعاشت الكنيسة فى سلام، وعاش الشعب فى هدوء دون صراعات شخصية، وكانوا يرون فى قادتهم الروحانيين صورة واضحة للإنجيل المطبوع فى حياتهم، إذ كانوا صادقين فى أقوالهم وأبوتهم ومحبتهم.
وأذكر أنه فى كاتدرائية أيا صوفيا بالدور الثانى، كان بها مقر انعقاد المجمع، فكنت أصعد إلى الدور الثانى وأشاهد مكان انعقاد المجمع الرائع، وهناك لوحة كبيرة بها عبارة «انعقاد مجمع القسطنطينية الثانى».
اغتبط القديس «غريغوريوس» لهذا القرار الذى أتاح له العودة إلى وحدته المحبوبة، واستأذن الإمبراطور فى السفر، وذهب إلى «نازينس» التى كانت فى ذاك الوقت دون راعٍ، فاجتهد فى انتخاب أسقف لها، ولكن لم يمكنه ذلك طوال عامين، فحمل العبء إلى أن رُسم لها عام ٣٨٣م من يُدعى «إقلاليوس» رجلًا فاضلًا.
وحينئذ انفرد فى «أريانزيم» بلدة مولده، وهناك قضى مع بعض النساك بقية أيام حياته.
وفى فترة وحدته ترك لنا القداس الذى يحمل اسمه «القداس الإغريغورى» وكنزًا من الكتابات اللاهوتية العميقة مع عظات ورسائل وقصائد:
- العظات: أجمل ما تركه لنا هو ٤٥ عظة قدمها فى أهم فترة فى حياته «٣٧٩- ٣٨١م»، حينما توجه لرعاية شعب القسطنطينية، جاذبًا أنظار العالم إليه.
- القصائد الشعرية: كتبها فى أواخر حياته، فى خلوته ببلدة «أريانزيم» Arianzum لم يبق منها سوى ٤٠٠ قصيدة، فى إحداها سجل لنا سبب اتجاهه للشعر فى أواخر حياته، ألا وهو إظهار أن الثقافة المسيحية ليست أقل من الثقافة الوثنية بأى حال، ولأن بعض الهرطقات كهرطقة «أبوليناريوس» كانت تستخدم القصائد فى نشر أفكارها، لهذا استخدم ذات السلاح للرد عليها. جاءت بعض القصائد لاهوتية والبعض الآخر سلوكية.
- رسائله: أول مؤلف باليونانية ينشر رسائله، وذلك بناء على طلب «نيكوبولس» حفيد أخته «جورجينا». بغير قصد وضع نظرية «كتابة الرسائل»، إذ طلب أن تكون الرسالة قصيرة وواضحة ولطيفة «رقيقة» وبسيطة.
مدحه القديس «باسيليوس»، إذ كتب إليه يقول: «وصلتنى رسالتك أمس الأول، هى بالحقيقة منك، ليس من جهة الخط وإنما من جهة نوع الرسالة، فإن كانت عباراتها قليلة لكنها تقدم الكثير».
تنيح فى سلام عام ٣٩٠م، ونُقل جسده من القسطنطينية إلى روما حيث دُفن فى هيكل خاص فى كنيسة القديس بطرس.
تحتفل الكنيسة القبطية بتذكار نياحته فى ٢٤ توت «الموافق ٤ أكتوبر».
انتهيت من تسجيل السيرة الرائعة للقديس «غريغوريوس» التى لا يعرفها الكثيرون من أبناء الكنيسة!! لعل وعسى.