رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النافذة

محمد صادق
محمد صادق


لم تكن هى المرة الأولى التى أمر فيها بذلك الشارع الكبير، ويلفت انتباهى ذلك البيت الشاهق ذو النافذة الواحدة الباسقة، وفيها «شيخ كبير» ينظر للمارة نظرة تثير العجب، يبتسم فيما لا يستدعى ابتسامًا، ويكتئب لما يفرح له الكثير، مما دعانى أن أديم النظر إليه، وما إن التقت مُقلتى بمقلتيه حتى أصابنى شىء من الهلع، ففررت ولم أعقّب.
روادتنى نفسى بالرجوع ثانية إليه، وألقيت فى روعى مزيدًا من قطرات الجرأة، وقلت:
- وما يضيرنى، وكيف يصل إلىّ أذاه؟
طوفت مرة أخرى ناحية البيت، فقال لى أحد المارة وقد لاحظ اكتراثى:
- أتعرف من هذا، ومن يكون؟
- ومن هذا ومن يكون؟!
ابتسم: حكيم، ذو فراسة للعابرات، إذا مرت يرى ما لا يراه الناظرون.
ابتسمت: أأنت مخبول؟
وحكمت على الشيخ المطل من نافذته العليا بذلك، ورميته بالجنون أو بمس الجنون، لكننى لما أطلت النظر إليه أحسست أنه قريب منى برغم البعد بيننا، وكأن أنفاسه من شهيق وزفير تكاد تمر علىَّ.
ابتسمت له، فابتسم لى وكانت أسنانه بيضاء من غير سوء ناصعة، تنم عن أنه لم يمضغ لحمًا قط أو ينل مما يغير لونها الناصع، فهششت عن رأسى فكرة الجنون، فثيابه ولحيته البيضاوان برهانان لوقار وسيادة دار.
أشار إلىّ ببنان سبابته، فانطلقت أحوم حول البيت أبحث عن مدخل أو مغارة حتى ترفعنى إليه، فإذا بى أرى سلمًا كثيرة درجاته وأعتابه، وليس له ما يتكئ عليه الصاعد والهابط، تعجبت كيف لمسن عجوز كهذا أن يقطع تلك العتبات نزولًا وصعودًا إلّا أن يكون حذرًا أو يكون من الهالكين؟!
لم تدم حيرتى طويلًا حين قال لى:
- أهلًا بك بنى، أتابعك من زمن. فطغت فرحة الحفاوة على رهبة اللقاء.
- أريد أن أجلس معك، أتعلم منك، وأتأدب بين يديك.
ابتسم: على الرحب والسعة. حتى فوجئت بباب يعترض عروجى إليه، باطنه هو، وظاهره أنا، أصابنى جزع ويأس هممت بالرجوع، فقال لى:
- يا ولدى، ليس الصعود سهلًا ولا النظر من تلك النافذة متاحًا للجميع. فهون اشتياقى على حدة الضجر، فقلت له: إذًا أنّى لى أن أصل إليك وقد ضرب هذا الباب؟!
- اذهب فأدّ الحقوق، فإنك لا تؤدى.
- سوف أؤدى.
- رجاءً لا تسوّف.
حقيقة أحسست أنى مقصر، ولا أستحق تلك المكانة بتقصيرى هذا، فرجعت وداومت على الخمس المفروضة حضورًا وجماعة، ثم نسيته!! ولا أدرى كيف نسيته برغم لهفتى على العروج إليه حتى تجاوزت العشرة الأيام، ثم تذكرته فرجعت إليه تسوقنى العزيمة وعالى الهمة، أحس خفة روح ونقاء سريرة، وكأنه كان ينتظرنى، لوحت بيمينى له، فأشار إلىّ «أن تعال»، وإذا بى أجتاز خمس عتبات من أصل عشر، وإذ بالباب يضرب ثانية بينى وبينه، أبدى انزعاجى ومللى، لعله يفتح لى أو أن يرضى ليقطع عنى عنت الموانع والقيود.
- ابتسم: خلقنا من عجل أليس كذلك؟
- أقر: هو ذلك!
- سوف ترتقى مرتقى لم يرتقه الكثير يا ولدى، «فاصبر له غير محتال ولا ضجِر».
- أصبر بإذن الله، وما عساى الآن أن أفعل؟
- ارجع، فداوم على «البردين» أربعين يومًا وليلة لا تفوتك تكبيرة، وإلّا تعد من جديد.
وقبل أن ينطلق لسانى ويسأله ما «البردان»؟ ألجمته بلجام العالم، وقلت أسأل الناس فسألتهم فلما علمت، التزمت وألزمت نفسى بهما، وأتممت عشرًا تلو عشر تلو عشر حتى ناهزت الثلاثين وأنا خائف، أترقب ألا تفوتنى واحدة، حتى انفرطت الحبات الأربعون انفراط المسبحة، وأوشكت على إتمامها إلا من أيام قلائل.
وبينما أنا فى حديقة غناء تحوط المسجد، أغسل عينى من جداولها الجارية مما شابها وكدت أستبصر بها، حتى انطلقت حولى أسراب من جراد منتشر كأن أحد اللاهين قد هيج أعشاشها، فجعلت أفر منها لما خفتها، وهى تلاحقنى أفر وهى تلاحقنى، استغشيت بثيابى وجلبابى حتى استقرت واحدة منها عند أذنى لم أستطع لها مقاومة فخفضت لها جناحى مخافة اللسع.
- يا مسكين، أأتممت الأربعين؟
- وما شأنك؟!! يكفينى رضا ربى، وأداء فرضى المفروض.
- وعدك بالمرتقى بعدها.
- من أنبأك هذا؟!
- نبأنى من سبقوك.
- لا أفهم.
- وُعِد به قوم آخرون، وما إن أوشكوا على إتمامها حتى أرسل إليهم طير أبابيل تحوم حول رءوسهم والأعناق، حتى يضيع الفرض، ويبدأوا من جديد، وهكذا دواليك، ليظل هو الأسمى ومن دونه الأدنى.
- كيف هذا، إن سمته ورسمه يدلان على صدقه وصواب حدسه؟!
- أتأخذ بالمظاهر وأنت الآن بالله عارف، وترى ما لا يراه الآخرون؟!
تشتت فكرى، وتعاقبت الجرادات علىَّ حتى بسقت الشمس عن مشرقها، فارتفعت عنى وضاعت التكبيرة الأولى.
- ويحكم!
- لم يعد لديك خيار سوى أن تقتحم عليه أعتابه، وترتقى مرتقاه، فما أديت كافٍ، وليس بالقليل.
- والباب المضروب بينى وبين النافذة؟
- شفاف رقيق غير صفيق.
ضربت فى الأرض حيران لى أُخريات تدعونى إلى العودة من جديد، وأخريات تسوقنى إلى ما يمكننى من المكانة الرفيعة والعين البصيرة، لم أجد بدًا من موافقة الثانية ذات اللسعة المؤلمة.
انطلقت إليه، أبحث عنه فلم أجده، سألت أحد المارة؟
- كان هنا بيت وشيخ ونافذة؟!
- أأنت مخبول؟!
- تلك أرض مشاع- فضاء- ما كان فيها يومًا بناء!
- تعجبت: وما يكون فيها؟!
- اكتأب، وقال: لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر.. وو وو... حتى اختفى بين طيات البيوت.
تمت بحمد الله.
القصة الفائزة بالمركز الأول فى مسابقة صلاح هلال الأدبية للقصة القصيرة على مستوى العالم العربى ٢٠٢٠