رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سعاد حسنى وخشم الست بدور


أثارت بدور البراهيم خبيرة التجميل السعودية ضجة فى وسائل التواصل حين قارنت أنفها بأنف سعاد حسنى، قائلة: «أنا أشوف نفسى خشمى أحلى من خشمها.. بمقاييس الأنف، والله أنا أنفى أحلى من أنف سعاد حسنى.. شئتم أم أبيتم أنا أشوف نفسى خشمى أحلى من خشمها». وكلمة الخشم المستخدمة فى السعودية كلمة فصيحة تعنى الأنف، ويقال فى اللغة «فلان كسر خشم فلانًا» أى أذله ومرغ أنفه فى التراب.
بطبيعة الحال لست مهتمًا هنا بتعريف القارئ لأطوال وأحجام الأنوف النسائية التى نبهنا أحدهم إلى أهميتها حين قال: «لو كان أنف كليوباترا أقصر قليلًا لتغير العالم»! ما يعنينى فى موضوع «خشم الست بدور» الربط الثابت بين الجمال واللحم البشرى، سواء أكان ذلك اللحم بالمفرد، كل قطعة منه على حدة، أو بالجملة على بعضه.
الست بدور تتخيل أن جمال سعاد حسنى فى أنفها، وليس فى روحها الطيبة المعذبة التى تطل برقة من عينيها وفى صوتها وهى تقرأ قصائد صلاح جاهين. وقد أتاحت لى المصادفة وحدها أن أرى سعاد وهى ما زالت لم تخطُ أى خطوة للأمام بعد، حين كنت أسير مع والدى فى شارع الجمهورية بعابدين فاستوقفنا شخص عرّف نفسه بأنه كان من المترددين على ندوة الموسيقى السيمفونية فى كلية الآداب التى كان والدى يعقدها أسبوعيًا. رحب به والدى دون أن يتذكره، ودعانا الرجل، وهو عبدالمنعم حافظ زوج أم سعاد، إلى الغداء فى اليوم التالى فى منزله بالفوالة القريبة منّا. وقال لى والدى: أنا تقريبًا لا أعرف هذه الأسرة، فهل تأتى معى؟. ذهبنا وجلسنا طويلًا مع الست جوهرة والدة سعاد وزوجها، وقبل أن ننصرف دخلت فتاة نحيفة فى ملابس بسيطة ووضعت صينية شاى، ثم جلست تتابع الكلام دون أن تنطق بحرف. نظر إليها والدى مرة، ثم واصل حديثه مع والديها، ثم أعاد النظر إليها ثانية مدهوشًا وقال لوالدتها وزوجها: هذه البنت نجمة!
حين خرجنا من البيت عندهم سألته: هل قلت ذلك مجاملة؟ قال بحرارة: لا والله.. هى نجمة بل ونجمة كبيرة أيضًا. حينذاك، وإلى الآن، وطول الوقت، لم يجذبنى إلى سعاد إلا نظرة عينيها، بالحيرة الرقيقة، والبحث عن الطمأنينة، والقلق الرهيف المعذب الذى ساقها إلى النهاية الأليمة. الجمال كما يقال ليس فى العين لكن فى النظرة، وليس فى الشفتين لكن فى الابتسامة، وليس فى الكلمة لكن فى النبرة، إلا أن الست بدور مع آخرين ما زالوا يفهمون الجمال فى حدود «خشمى ولا خشمها»، «حواجبى ولا حواجبها»! بالطبع الشكل الخارجى عنصر مهم جدًا، لكن أهميته تكون بقدر تعبير ذلك الشكل عن المحتوى، بقدر ما يكون الجمال الخارجى تعبيرًا عن الجمال الروحى، وفى ذلك السياق فلا شك أن فتاة رائعة الجمال مرت بحياة كل منا، لكنها لم تحرك فيه أى شعور ولم تترك أى أثر! الجمال أيضًا مفهوم نسبى، فعند بعض القبائل الإفريقية تعد الشفتان الغليظتان عند المرأة جمالًا ما بعده جمال، وفيما مضى كان معيار جمال المرأة أن تكون ممتلئة، بدينة، ذات عجيزة ضخمة أفاضت فى التغزل بها شخصيات نجيب محفوظ! وقد حدث عام ١٩٠٤ أن تزوج الشيخ على يوسف الصحفى من صفية السادات دون علم والدها الذى جن جنونه، فرفع دعوى يطالب فيها بإبطال الزواج، وأحال القاضى الدعوى للتحقق من النسل الشريف للشيخ السادات، وإثبات أن على يوسف الذى يحترف «حرفة وضيعة» هى الصحافة غير جدير بالزواج من أسرة كهذه! أما السيدة صفية التى أغرم بها على يوسف وأثارت أزمة تدخل فيها الخديو والإنجليز، فكانت امرأة بدينة لا يمكن القول اليوم بأنها جميلة.
جمال الشكل نسبى ومتغير فى الفنون أيضًا، وهناك فنون مثل الباليه والأوبرا تعد غاية فى الجمال لدى الشعوب الأوروبية، لكنها قد لا تكون جميلة لدى شعوب الشرق، لا لشىء إلا لأن الجمال مفهوم نسبى. وفى وقت ما كان من الجمال أن تطوق المرأة كاحل قدمها بخلخال من حديد، حين كان الحديد معدنًا ثمينًا، ثم سقط ذلك المفهوم الجمالى واختفى، ولذلك يظل من المستغرب ربط الجمال فقط بالشكل الخارجى، بالخشم، أو النهد أو الحواجب، فكل المعايير التى تبدو بها كل الأشياء جميلة، نسبية ومتغيرة، يبقى الجوهرى فقط: روح الإنسان، الأمر الذى عبرت عنه إحداهن فى تغريدة لها ردًا على الست بدور حين قالت لها: «لما أشوف سعاد أحس فعلًا إن الدنيا ربيع»، ليس الخشم يا ست بدور ما يخلق الربيع!