رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إهمالُ المثقفينَ


قضيةَ إهمالِ المثقفينَ أوْ تهميشهمْ ، قضيةٌ ليستْ حديثةً ، ولكنها بدأتْ معَ بدايةِ حكمِ محمدْ على ، الذي شعرَ أنَ القوةَ العسكريةَ وحدها هيَ التي تبني البلادُ ، أنَ شك أنَ هذا كانَ ناتجٌ عنْ ثقافتهِ العسكريةِ التي لا ترى غيرَ القوةِ العسكريةِ وحدها ، وسارَ على نهجهِ خلفاءهُ ، ولا نعتقدُ أنَ رفاعة الطهطاوي قد شجعهُ أحدٌ منْ الولاةِ وقتها, ولكنه شجعهُ الفرنسيونَ هناك, كانتْ بعثته لتذكيرِ المبعوثينَ بأمور دينهم , حتى لا ينسونَ التعاليم الدينية , ولكنهُ عملُ عقلهِ, وعادَ منْ الخارجِ مفكرا , ومعَ ذلكَ فقدْ نفاهُ الخديوي سعيدْ إلى السودانِ.
وظلَ تجاهلُ المثقفينَ إلى أنَ ظهرتْ الأحزابُ السياسيةُ في مصرَ، وظهرَ صالونُ الملكةِ نازلي وترددتْ عليهِ نخبةُ المثقفينَ، ورأينا محمدْ حسنينْ هيكلْ والدكتورُ طهْ حسينْ وعباسْ العقادْ، وغيرهمْ منْ كبارِ المثقفينَ المصريينَ ينضمونَ إلى الأحزابِ لتشكيلِ زخمٍ سياسيٍ، والتفوا حولَ صالونِ ميْ زيادة. صحيح أنهمْ عشقوا أولاً جمالها وتفتحها ونضارتها، ثمَ عشقوا بعدُ ذلكَ ثقافتها، وقالوا في حضرتها ما لمْ يقولوهُ في كتبهمْ.
ثورةُ يوليو 1952 أيضا لمْ تنصفهمْ، وأبعدتهمْ، وملأتُ بهمْ سجونها، وعلى رأسهمْ يوسفْ إدريسْ وغيرهِ، وقصرَ اهتمامهمْ على الضباطِ المثقفينَ. يوسفْ السباعي. ثروتْ عكاشة، آلَ هويدي، وغيرهمْ، وفي بدايةِ حكمهِ حاولَ الساداتْ أنْ يقتربَ منْ توفيقْ الحكيمْ، ولكنَ آراءَ توفيقْ الحكيمْ لمْ تعجبهُ، وقربَ لطفي الخولي ورشادْ رشدي، ثمَ وصفهمْ بالأفنديةِ، ولمْ يقتربْ منهُ سوى أنيسْ منصورْ وموسى صبري الذينَ تفرغا لهُ ولمؤلفاتهِ، وكتبوا لهُ خطبهِ. وقدْ أدى إهمالُ المثقفينَ خلالَ تلكَ العصورِ إلى تنامي تلكَ الظاهرةِ، وظهرتْ عدةُ عواملَ إضافيةٍ ساهمتْ بدرجةٍ فعالةٍ في ظهورها بقوةِ وفعاليةِ ومنها:
1 - لمْ تهتمْ الأحزابُ في مصرَ بالمثقفينَ، فقدَ أبعدتهمْ كلُ الأحزابِ عنْ لجانها، وبالرغمِ منْ وجودِ لجانٍ ثقافيةٍ بكلِ حزبٍ على مختلفِ مستوياتهِ إلا أنها للأسفِ وقعتْ بينَ براثنِ غيرِ المثقفينَ مما أفقدها فعاليتها، كما لمْ يضعْ أيُ حزبٍ على قوائمهِ كاتب أوْ مثقفٍ واكتفتْ الأحزابُ بممارسةِ السياسةِ عنْ طريقِ العصبيةِ والقبليةِ بحثا عنْ فرصِ الفوزِ.
2 - الهمُ الاجتماعيُ العامُ. وهوَ اتجاهُ الكتابِ إلى البحثِ عنْ لقمةِ العيشِ بعيدا عنْ الثقافةِ، فلمْ تعدْ الثقافةُ ولا الكتابةُ مجديانْ، لجلِ هذا انصرفَ عددٌ منْ المثقفينَ والكتابِ هذا فضلاً عنْ ارتفاعِ التزاماتِ وتكاليفِ الثقافةِ والكتابةِ منْ شراءِ الصحفِ والمجلاتِ وقراءةِ الكتبِ ومتابعةِ التليفزيونِ في القنواتِ الفضائيةِ، كلُ هذا يشكلُ ضغطا ماليا على المثقفِ الكاتبِ بالإضافةِ إلى عدمِ قدرةِ الكاتبِ على العيشِ منْ كتابتهِ ومؤلفاتهِ وهيَ قضيةٌ أخرى يطولُ شرحها.
3 - انحسارُ دورِ المؤسساتِ المدنيةِ المعنيةِ بالمثقفينَ والكتابِ، واختفاءُ نادي القصةِ والقلمِ وغيرها منْ مؤسساتِ المجتمعِ المدنيِ، وانشغالها بأعضاءِ مجالس الإداراتِ وشؤونها الذاتيةِ، وانعزلتْ تلكَ الجمعياتِ عنْ قواعدها منْ أعضائها، كما انعزلتْ تلكَ المؤسساتِ عنْ القضايا العامةِ. فلمْ تساهمْ في الحراكِ الديموقراطيِ الذي بدأَ يظهرُ في الأفقِ السياسيِ، ولمْ يطلبْ اتحادُ الكتابِ مثلاً أنْ يشاركَ في مراقبةِ الانتخاباتِ كغيرهِ منْ المؤسساتِ المدنيةِ. وهوَ الأمرُ الذي ساهمَ في تكريسِ الانعزاليةِ.
ولا شك أنَ كلَ هذهِ الأمورِ مجتمعةً ساهمتْ بشكلٍ كبيرٍ في انعزالِ أكثرَ منْ ستينَ عاما قبل سبعين عاما، يومَ أنْ كانَ الجمهورُ المصريُ يتابعُ القضايا التي يثيرها المثقفونَ والتي كانتْ تهمُ قطاعا عريضا منْ الجمهورِ مثلٍ قضايا مجانيةٍ التعليمِ والحريةِ والديموقراطيةِ. وهيَ القضايا التي ابتعدَ عنها كتابنا ومثقفينا للأسفِ بحثا عنْ الأمانِ.