رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأم المصرية.. بطولة وجمال


فى إحدى روايات الكاتب الروسى العملاق دوستويفسكى تقوم فتاة بإطلاق الرصاص على عمدة المدينة، وفى التحقيق معها يسألها القاضى عن دوافعها إلى ذلك، فتجيبه بأن عمدة المدينة دأب على تعذيب المعتقلين وإهانتهم، فيستفسر منها: وهل لك بينهم قريب؟ فترد بأن أحدًا من أقربائها أو معارفها لم يتعرض للسجن، فيندهش سائلًا: «وما الذى دفعك إذن إلى إطلاق الرصاص على عمدة المدينة؟»، تقول: «لكى يدرك هو والآخرون أن إهانة البشر لا ينبغى أن تمر بلا عقاب»!.. لم تكن الفتاة الشابة تدافع عن خطيبها أو والدها أو شقيقها، كانت تدافع عن مبدأ، عن فكرة أنه لا ينبغى القبول بإهانة أى إنسان، لم تكن ثمة مصلحة شخصية لديها، لكن مصلحة إنسانية عامة.
تذكرت فتاة دوستويفسكى عندما قفزت إلى الأضواء «صفية أبوالعزم» حين التقت فى «القطار ٩٤٨» جنديًا لم يكن فى جيبه ثمن تذكرة السفر، فسخر منه مفتش القطار ورئيسه وأهاناه، فقامت تتصدى لهما، وفيما بعد علقت على ما جرى بقولها: «كان لازم أعمل حاجة لأن الركاب سكتوا على الإهانة»!
لم يكن الجندى البسيط ابنها ولا زوجها، لكنها كانت تدافع عن مبدأ، عن فكرة أنه لا ينبغى القبول بإهانة أى إنسان.. وقد انتشر الجدل بشأن الحادثة بعد ظهور شريط مصور بما حدث يوم الأربعاء ٩ سبتمبر، وردد البعض أن من حق المفتش أن يطالب بالتذكرة، ورد آخرون: نعم من حقه، لكن ليس من حقه أن يهين إنسانًا، ولا أن يسخر منه.. وقالت صفية أبوالعزم لاحقًا التى دفعت ثمن التذكرة نيابة عن الجندى الشاب: «تذكرت أولادى فى نفس الموقف وبكيت، قلبى وجعنى عليه».
إنه قلب المرأة التى لا يرى فيها كائنات العصور الوسطى إلا مصدرًا للغواية الجنسية لا بد من حجبه بملازمة البيت.. فى عربة القطار ٩٤٨ جلس عشرات الرجال، لكن المرأة وحدها، لا أحد سواها، هى التى نهضت من مقعدها لتساعد الجندى الشاب.. قلب الأم المصرية المشغول برقة القمر ودفء الشمس، بفضة البطولة وذهب الجمال.
امرأة مصرية أخرى هى «آمنة الدهشان» تصادف رحيلها عن دنيانا قبل واقعة القطار بيوم واحد، فى ٨ سبتمبر، عن ٩٥ عامًا.. الحاجة آمنة مواليد ١٩٢٥ من أسرة بدوية هاجرت إلى مدينة الإسماعيلية وأقامت هناك، وعندما شب عودها تزوجت من ابن عمها، ومد الله فى عمرها لتكون شاهدة على ست حروب: الحرب العالمية الثانية، وتحكى عنها: «أتذكر أول غارة وأنا فى السابعة من عمرى حين كانت الطائرات الألمانية تُحلّق لقصف المواقع البريطانية، والجنود الإنجليز يختبئون وسط المزارع».. ثم شهدت حرب فلسطين ١٩٤٨، والعدوان الثلاثى على مصر ١٩٥٦، وحرب ٦٧، وحرب الاستنزاف، حتى حرب أكتوبر ١٩٧٣.. لكن هذه المرأة البدوية البطلة لم تكن مجرد شاهد بل واحدة ممن صنعوا الأحداث، وحينما لم يكن عمرها يزيد على خمسة وعشرين عامًا انضمت إلى الفدائيين الذين كانوا يختطفون الإنجليز فى مدن القناة، وشاركت فى معركة الإسماعيلية بين قوات البوليس المصرى وقوات الاحتلال الإنجليزى فى يناير ١٩٥٢، وتتذكر الفدائية العظيمة آمنة الدهشان تلك السنوات فتقول: «كان السلاح يصل إلينا فى الإسماعيلية من المحافظات على الجِمال، بعد أن شدد الإنجليز التفتيش على القطارات والطرق الزراعية، وكنت أخفى الأسلحة فى عربة خضار أسير بها وداخل ملابسى إلى أن أنقلها للفدائيين».
بعد حرب ١٩٦٧ والنكسة رفضت آمنة الدهشان التهجير من الإسماعيلية، وكان الكثيرون قد هاجروا، وأصرت على البقاء فى بيتها هناك لتستقبل فيه أبناء الإسماعيلية من الجنود العائدين، ثم انخرطت بعد ذلك فى العمل السياسى وأصبحت أول امرأة ريفية تشغل منصب عضو مجلس المدينة المحلى بمحافظة الإسماعيلية.. أنجبت سبعة أولاد، وأحاط بها فى أواخر عمرها ستون حفيدًا، وحينما كانت آمنة الدهشان تخفى السلاح لتنقله إلى الفدائيين تقاعس رجال كثيرون عن تلك المهمة الخطيرة، وحينما شاركت فى معركة الشرطة ضد القوات الإنجليزية كان رجال كثيرون يخشون ذلك، ثم يأتى أحدهم بعد ذلك ليتحدث عن أن المرأة يجب أن تلزم البيت لأن الرجل هو حاميها.. لكن واقعة القطار، ورحيل البطلة آمنة الدهشان، يذكرانا بجمال وبطولة المرأة المصرية التى خُلق قلبها من رقة القمر ودفء الشمس، من فضة البطولة ومن ذهب الجمال، من القصائد ومن البنادق، ومن الأغانى والكفاح.