رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ جادالحق على جاد الحق.. الرجل الذى لم تُغّير المناصب فيه شيئًا



الشيخ جاد الحق على جاد الحق «٥ أبريل ١٩١٧- ١٦ مارس ١٩٩٦»، شيخ الأزهر الأسبق المولود فى «بطرة»- محافظة الدقهلية، تلقى الشيخ جاد الحق تعليمه الأولى فى كُتاب الشيخ سيد البهنساوى بالقرية، فحفظ القرآن، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم الْتحق بالمعهد الأحمدى بطنطا، وأنهى المرحلة الابتدائية به، وانتقل إلى المرحلة الثانوية، واستكملها فى القاهرة فى معهدها الدينى بالدَرَّاسَة، وبعد اجتيازه لها التحق بكلية الشريعة، وتخرَّج فيها سنة ١٩٤٤، حاصلًا على الشهادة العالمية، ثم نالَ تخصص القضاء بعد عامين من الدراسة، وكان الأزهر يعطى لمن يحصل على العالمية فى الشريعة أن يتخصص فى القضاء لمدة عامين، وفى الإجازات التى كان يقضيها فى القرية يؤم الناس فى صلاتهم ويلقى عليهم دروسًا دينية بين المغرب والعشاء.
ثم عُيِّن أمينًا للفتوى بدار الإفتاء المصرية ١٩٥٣، ثم عاد إلى المحاكم الشرعية قاضيًا فى سنة ١٩٥٤، وانتقل إلى المحاكم المدنية ١٩٥٦ وعين مستشارًا بمحاكم الاستئناف ١٩٧٦، قبل أن يعين مفتيًا للديار المصرية أغسطس ١٩٧٨، فعمل على تنشيط الدار، والمحافظة على تراثها الفقهى، فعمل على اختيار الفتاوى ذات المبادئ الفقهية، وجمعها من سجلات دار الإفتاء المصرية، ونشرها فى مجلدات بلغت عشرين مجلدًا، وهى ثروة فقهية ثمينة؛ لأنها تمثل القضايا المعاصرة التى تشغل بال الأمة فى فترة معينة من تاريخها، وفى الوقت نفسه تستند إلى المصادر والأصول التى تستمد منها الأحكام الشرعية. وتشمل اختيارات الفتاوى ما صدر عن دار الإفتاء فى الفترة «١٨٩٥- ١٩٨٢»، وضمت المجلدات الثامن والتاسع والعاشر من سلسلة الفتاوى اختيارات من أحكامه وفتاواه، وتبلغ نحو ١٣٢٨ فتوى فى الفترة التى قضاها مفتيًا للديار المصرية.
وعين جاد الحق وزيرًا للأوقاف فى يناير ١٩٨٢، وظلَّ بها شهورًا قليلة، اختير بعدها شيخًا للجامع الأزهر فى ١٧ مارس ١٩٨٢ واستمر فى المنصب حتى وفاته، وكان لاشتغال الشيخ جاد الحق بالقضاء، منذ وقت مبكر، أثره البالغ فى قيادته الأزهر، فهو فقيه قاض يعتمد على الدراسة المتأنية والنظر العميق، والبعد عن الهوى، ومن ثم كانت قراراته صائبة، هادئة، بعيدة عن العاطفة المشبوهة والانفعال المؤقت، وتهدف إلى الصالح العالم، لم يقتصر دور الأزهر على الدرس والتعليم وتخريج العلماء، بل امتد أثره إلى الحياة العامة الرحيبة، فكان ملاذًا للناس حين يقع بهم ظلم أو جور، يأخذ على يد الظالمين ويعيد الحق للمظلومين، فحين قام «مراد بك»، أحد كبار المماليك فى العصر العثمانى، بالهجوم على بيوت بعض الناس فى القاهرة ومصادرة ممتلكاتهم، لجأ الناس إلى الشيخ «أحمد الدردير» سنة ١٧٨٥، وكان من كبار علماء الأزهر، فقاد ثورة لاسترداد الحقوق المغتصبة، وما إن علم «إبراهيم بك»- وكان شريك مراد فى حكم البلاد- حتى خشى من استفحال الثورة، فأرسل إلى الدردير يسترضيه ويعتذر إليه مما صنع زميله، ويخبره بأنه ملتزم بردّ ما نهب أو دَفْع قيمته، وبعد عشر سنوات من هذه الغضبة الأزهرية قاد «عبدالله الشرقاوى»، شيخ الجامع الأزهر، ثورة ثانية لاسترداد الحقوق، ودفع الظلم، ومقاومة الطغيان، حين دفع إليه مجموعة من فلاحى قرى مدينة بلبيس بمحافظة الشرقية شكاواهم من ظلم «محمد بك الألفى» ورجاله، ولم تهدأ هذه الثورة العارمة إلا بعد توقيع وثيقة تنص على عدم فرض ضريبة إلا بعد إقرارها من مندوبى الشعب، وألا تمتد يد ذى سلطان على فرد من أفراد الأمة إلا بالحق والشرعية، وقاد الأزهر الثورة ضد الحملة الفرنسية، وتحمل تبعات الزعامة الوطنية وإذكاء الثورة، ولم تفلح المحاولات التى بذلها «نابليون بونابرت» لاستمالة رجال الأزهر بإضفاء كل مظاهر التبجيل والتقدير عليهم. وبعد جلاء الحملة الفرنسية كانت لعلماء الأزهر يد لا تُغفل فى تعيين «محمد على» واليًا على مصر، فى سابقة لم تحدث من قبل فى التاريخ الإسلامى، حين تشترك الإرادة الشعبية وتأييد الخاصة وصفوة المجتمع فى اختيار حاكم للبلاد، واشترك الأزهر فى الثورة العرابية، وحمل راية الجهاد فى ثورة ١٩١٩ بمشايخه وطلابه، الذين كانوا فى مقدمة صفوف المجاهدين، وكانت ساحة الأزهر وأروقته مركزًا لتنظيم الثورة، وقد استشهد على أبواب الجامع الأزهر كثير من الثوار. وكان شيوخ الجامع الأزهر هم حملة الأمانة وقادة التنوير وزعماء النهضة وملاذ الأمة وحصنها حين تضطرب الأمور، ويحتاج الناس إلى رائد لا يكذب قومه، يأخذ بيدهم إلى برّ النجاة، وكان الشيخ «جاد الحق على جاد الحق» واحدًا من حبات عقد الأزهر، الذى يُزيّن جِيد مصر أمانة وشجاعة وورعًا ومسئولية، وقد تحمل تبعات الأزهر وقاده ببراعة فى أجواء مضطربة تحيط به، وسياسات تكبل أقدام الجامع العنيد، وقوانين تعوق مسيرته، ولم يكن الأزهر كما كان فى القديم مؤسسة تتمتع بحرية الحركة، وتعتمد على أوقافها من الأراضى والعقارات تكفل لها الاستقلال بعيدًا عن الحكام والمتسلطين، ومن هنا كانت براعة الشيخ وتوفيق الله له فى أن يحقق نتائج ملموسة فى ظل السياسات المقيدة.
مع نهاية حقبة الخمسينيات استأجر الشيخ جاد الحق على جاد الحق شقة فى حى المنيل بالقاهرة، وتقع فى الدور الرابع، متواضعة الأثاث بها مكتب عبارة عن منضدة قديمة أكل الزمان عليها وشرب، ولم يغيرها الإمام طوال ٤٠ سنة وفوقها صاغ الإمام الأكبر كل ما صدر عن الأزهر من بيانات للمسلمين بضرورة توحيد الجهود والصفوف، ومن فوقها صدرت أعظم فتاوى وأقوى حوارات سياسية، ورغم كثرة المناصب التى تولاها، إلا أنها لم تغير فيه شيئًا لا فى طباعه ولا فى تعاملاته مع الناس، ولم تختلف حالته المالية فى أيامه الأخيرة عن تلك التى كانت فى بداية حياته العملية، ففى كلتا الحالتين كان موظفًا يتقاضى راتبه من الدولة دون مكافآت أو حوافز، كما لم يكن يحصل على أى أموال تأتيه مقابل أبحاثه وكتبه القيمة، فقد كان يجعلها فى سبيل الله.
فى فترة عمله بالقضاء كان الحاجب الخاص به هو والدُ الرئيس الراحل محمد حسنى مبارك، وقد ساعد الشيخُ والدَ الرئيس مبارك على إلحاق ابنه فى الكلية الحربية، ولم ينكر ذلك الرئيسُ مبارك، فكان يحترم ويوقّرُ فضيلَة الشيخ لدرجة كبيرة.
الجوائز التى حصل عليها: وشاح النيل من مصر، وهو أعلى وشاح تمنحه الدولة فى سنة ١٩٨٣ بمناسبة العيد الألفى للأزهر، وسام «الكفاءة الفكرية والعلوم» من الدرجة الممتازة من المغرب، جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام سنة ١٩٩٥.