رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تحركات الكاظمى ومحاولات استرداد الدولة العراقية


العراق يتعرض لأضرار بالغة نتيجة تحوله إلى ساحة للصراع بين إيران وأمريكا، رغم أن الأخيرة يسرت سيطرة الأولى على البلاد بعد غزوه ٢٠٠٣، بهدف الإسراع فى تفكيك مفاصل الدولة.
منذ وصول ترامب للسلطة استخدمت واشنطن العراق كساحة لمعاقبة إيران وعزلها إقليميًا، فى الوقت الذى اتخذته إيران ميدانًا لتصفية الحسابات مع أمريكا، وعمقت من اختراقه اقتصاديًا باتفاقيات غير متكافئة، تدنت بالتعريفة الجمركية للسلع الإيرانية «من صفر إلى ٥٪».. ألغت الرقابة على الواردات الإيرانية، وقفزت بالتبادل التجارى من ٢٠٠ مليون دولار ١٩٧٥ إلى ١٢ مليار دولار ٢٠١٩، وكان مخططًا الوصول بها إلى ٢٠ مليارًا ٢٠٢٠، لكن إغلاق الحدود ضمن الإجراءات الاحترازية لمكافحة تفشى فيروس «كورونا» عرقلها.. الميزان التجارى يميل لصالح إيران بنسبة تتجاوز ٩٠٪.. إيران تصدر ٧٢٪ من سلعها غير النفطية للعراق، وتستحوذ على ١٧.٥٪ من أسواقه.. والأمر وصل إلى حد تسميم عملائها بالداخل العراقى للأنهار لإجباره على استيراد الأسماك من إيران.. وضع كارثى يهدد بتحويل العراق إلى ولاية إيرانية.
حجم التبادل التجارى بين العراق وتركيا بلغ قرابة ١٦ مليار دولار ٢٠١٩، منها صادرات تركية بـ٩ مليارات، وهناك خطط لزيادته إلى ٢٠ مليارًا، رغم احتلال تركيا مناطق واسعة بالشمال العراقى، شيدت عليها قواعد ونقاط عسكرية، تمتد على طول الحدود بدءًا من معبر «خابور» وصولًا إلى «صوران»، أكبرها قاعدة «بامرنى» اللوجستية شمال دهوك، وبها مطار عسكرى.. كما حولت المقر العسكرى بمنطقة «حرير» قرب أربيل إلى قاعدة عسكرية، إضافة لمعسكرى تدريب «زمار» و«بعشيقة».. هذه المناطق الاستراتيجية تم اختيارها بعناية لتضمن لتركيا السيطرة على محافظات دهوك وأربيل ونينوى، وتنعش آمال أردوغان فى استعادة ولاية الموصل المنتزعة من بلاده.. إيران وتركيا تنتهكان سيادة العراق، وتهددان وحدة أراضيه، مما فرض على حكومة الكاظمى التحرك على محاور استراتيجية تكفل الحفاظ على وحدة أراضى واستقلال العراق.

فى أعقاب اغتيال الولايات المتحدة قاسم سليمانى، قائد فيلق القدس الإيرانى بالعراق يناير ٢٠٢٠، نجحت القوى الموالية لإيران فى تمرير قرار من البرلمان العراقى يلزم الحكومة بإلغاء طلب مساعدة التحالف الدولى لمحاربة «داعش»، الذى تقوده واشنطن، والعمل على إنهاء وجود أى قوات أجنبية على أراضى العراق.. تنفيذ هذا القرار يعنى عمليًا انفراد إيران بالهيمنة على العراق، نظرًا لوجود قرابة ١٣٠ ألفًا من ميليشيات الحشد الشعبى الموالية لها، واعتماد العراق الكامل عليها فى التجارة والكهرباء والمياه، لذلك كان الحوار الاستراتيجى مع واشنطن على رأس اهتمامات حكومة الكاظمى.. الجولة التمهيدية بدأت فى بغداد يونيو ٢٠٢٠، والثانية ترأسها الكاظمى فى واشنطن ٢٠ أغسطس.
الزيارة حققت عدة نتائج أهمها: التزام الولايات المتحدة بسحب قوات التحالف الدولى من العراق بصورة كاملة فى غضون ٣ سنوات، يتم خلالها التعاون مع قوات الأمن العراقية لاستكمال هزيمة «داعش»، وتأهيل القوات العراقية للاعتماد على النفس فى مواجهة أنشطتها الإرهابية، على أن يكون الانسحاب تدريجيًا وفق مراحل يتم الاتفاق عليها.. توفير حلول جزئية بديلة لاعتماد العراق على إيران فى تلبية احتياجاته من الطاقة الكهربائية، وذلك بتوقيع عقود بمجال الطاقة والنفط مع الشركات الأمريكية الكبرى المتخصصة، قيمتها نحو ١٢ مليار دولار، والتنسيق المشترك لتنمية التعاون مع دول مجلس التعاون الخليجى وهيئة الربط الكهربائى التابعة له.. معاودة برامج وكالة التنمية الأمريكية USAID بقيمة إجمالية ٥ مليارات دولار، تتضمن دعمًا صحيًا وتعليميًا، لتوفير الكوادر العلمية الوطنية بالتعاون مع الجامعات الأمريكية «برنامج فولبرايت»، ومن خلال مبادرة شراكة التعليم العالى للسفارة الأمريكية.
الفصائل المسلحة المرتبطة بإيران أصابها القلق من الالتزام الأمريكى بدعم العراق، طالما ابتعد عن الخضوع للإملاءات الإيرانية، وسعى لتعزيز سلطة القانون والدولة، مما يفسر حدة البيان الذى أصدرته قياداتها، معربة عن استنكارها لـ«عودة الكاظمى» دون تنفيذ القرار الخاص بإنهاء الاحتلال الأمريكى، وتهديدها بأن «المقاومة العراقية ستستهدف كل المصالح الأمريكية»، وهى العمليات التى كان قد تم تصعيدها بالفعل قبل زيارة الكاظمى مباشرة، بقصف صاروخى لقاعدة بلد الجوية بمحافظة صلاح الدين ومعسكر التاجى شمال بغداد حيث توجد قوات أمريكية، واستهداف رتلين للتحالف الدولى بمحافظتى البصرة وذى قار، ورتل تابع للشركات المتعاقدة مع التحالف بمحافظة الديوانية.. والحقيقة أن ذلك يمثل أكبر التحديات لحكومة الكاظمى، ما يجعل المعيار الحقيقى لنجاحه هو قدرته على تحقيق التوازن فى العلاقة مع كل من واشنطن وطهران، دون الخضوع لإملاءات أى منهما، ومدى تمكنه من فرض سلطة القانون والدولة ونزع سلاح الميليشيات.

زيارة الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون لبغداد تمت فى اليوم التالى لعودة الكاظمى من واشنطن، ليطرح بلاده كبديل للوجود الأمريكى.
هذه الزيارة رغم قصر مدتها، فقد سبق الترتيب لها جيدًا، بزيارة وزير الخارجية الفرنسى جان إيف لودريان منتصف يوليو، وزيارة وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلى ٢٧ أغسطس.. فرنسا بالنسبة للعراقيين وجه مقبول، فهى لم تشارك فى الاجتياح الأمريكى عام ٢٠٠٣، لكنها انضمت إلى التحالف الدولى ضد «داعش» ٢٠١٤، الذى شارك فى هزيمة التنظيم الإرهابى فى سوريا والعراق، فضلًا عن أنها لعبت دورًا توفيقيًا بين الحكومة العراقية والأكراد عندما هددت الأزمة بينهما بالحرب عام ٢٠١٧، نتيجة للخلافات الناشئة عن تنظيم أربيل استفتاءً على الاستقلال عارضته بغداد.
ماكرون حمل معه مبادرة لدعم «سيادة العراق»، بالتعاون مع الأمم المتحدة، وهى رسالة غير مباشرة تستهدف التدخل التركى شمال العراق، وتضاف إلى الموقف الفرنسى الذى يتصدى للتدخلات التركية فى ليبيا، ويدعم اليونان فى خلافها مع تركيا بشأن التنقيب عن الغاز غير القانونى الذى تقوم به تركيا شرق المتوسط.
الزيارة أسفرت عن نتائج بالغة الإيجابية: التعاون فى مجال الطاقة، خاصة فيما يتعلق بتنفيذ مشروع لاستخدام الطاقة النووية فى التغلب على النقص المزمن فى الكهرباء، تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية.. التعاون العسكرى فى مواجهة تنظيم «داعش»، وفى بناء القوة العسكرية العراقية، على نحو يمكنه من الحفاظ على سيادته.. استئناف برنامج التدريب بعد توقفه نتيجة جائحة كورونا، وذلك بمعرفة قرابة ٢٠٠ من العسكريين الفرنسيين.. الدعم الفرنسى لمشروع مترو بغداد، وفى المجالات العلمية والثقافية والصحة والدعم الإنسانى خاصة فى المناطق الأكثر هشاشة.. إقرار حق العراق فى محاكمة الإرهابيين الفرنسيين من جماعة داعش الذين تم اعتقالهم خلال معركة الموصل وغرب العراق «عددهم ١١ إرهابيًا»، وذلك بحكم وقوع جرائمهم على أراضيه، وإصدار القضاء العراقى أحكامًا بالإعدام بحقهم.

بعد ثلاثة أيام من مغادرة ماكرون بغداد توجه الكاظمى إلى عمان للمشاركة فى قمة ثلاثية «مصرية، عراقية، أردنية» مع الرئيس السيسى والملك عبدالله.. وهى القمة الثالثة، سبقتها قمتان بالقاهرة مارس ٢٠١٩، ثم فى نيويورك سبتمبر ٢٠١٩ على هامش أعمال الجمعية العامة.. من الناحية السياسية فإن الدول الثلاث تتصدى لمحاولات شرسة للتوسع الإقليمى، العراق يعانى التوسعين الإيرانى والتركى، والأردن يعانى محاولات الضم الإسرائيلية لتصفية نهائية للقضية الفلسطينية، ومصر تتصدى لمخاطر التمدد التركى فى ليبيا والشمال الإفريقى.
العراق لم يستفق من صدمة الغزو الأمريكى ويلتفت إلى محيطه العربى إلا بداية عهد حيدر العبادى، وتأكد ذلك بشكل أوضح مع مقدم حكومة الكاظمى، وهو لم يعط أولوية للانفتاح على السعودية ودول الخليج فحسب، بل أشهر حرصه على انتمائه العربى عندما اختار أن يكون السلام المراسمى الذى تم عزفه أثناء زيارة الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون لبغداد هو موسيقى نشيد «الوطن الأكبر»، وتلك إضافة جيدة للأمن القومى العربى، الذى انكشف جناحه الشرقى للأطماع الفارسية والتركية منذ أن سقطت الدولة العراقية جراء الغزو الأمريكى.
القمة ركزت على التعاون الاقتصادى، خاصة ما يتعلق بالطاقة والتجارة البينية والاستثمار، وكان أهم أهدافها دعم عودة العراق إلى محيطه العربى، وفى مواجهة الضغوط الاقتصادية التى يواجهها من إيران وتركيا.. العراق يصدر نفطه الخام عبر منفذين: الخليج العربى ومضيق هرمز جنوبًا، الذى يتعرض لتهديدات إيرانية متكررة، وميناء جيهان التركى على البحر المتوسط شمالًا، وهو يخضع أيضًا للضغوط التركية، مما يفرض توفير منفذ ثالث للتصدير، عن طريق خط جديد يمتد من حقل الرميلة أقصى جنوبى العراق إلى مدينة حديثة فى الأنبار غربى العراق، ومنها إلى ميناء العقبة الأردنى، ثم إلى أوروبا عبر قناة السويس، أو خط سوميد، هذا الخط سيستغرق إنشاؤه ما بين ٣ و٥ أعوام، لكنه سينهى اعتماد العراق على خط جيهان، الذى تحقق من ورائه تركيا مكاسب كبيرة كرسوم عبور، فى الوقت الذى تلحق فيه بالعراق أضرارًا شديدة جراء تشييدها «سد إليسو».
وزارة الكهرباء العراقية تعاقدت خلال زيارة الكاظمى الأخيرة لواشنطن مع شركة جنرال إلكتريك لمد خط ربط كهربائى إلى الأردن بطول ٣٠٠ كم، وتم تخصيص مبلغ ٧٢٧ مليون دولار لتنفيذه، على أن يتصل مستقبلًا بخط ربط مع مصر يضمن حصول العراق على ٩٦٠ ميجاوات من الكهرباء.. وهناك طريق دولى سيتم مده ليربط العراق بالأردن ومصر ويسهل حركة المرور، مشروعات إعادة الإعمار ستحظى فيها الشركات المصرية والأردنية بتسهيلات خاصة، كما سيتم تأسيس شركة مصرية عراقية لاستخراج النفط العراقى.

سيادة الدولة العراقية تآكلت، تحت ضغط التدخلات الإيرانية والتركية فى شئونها الداخلية، والدولة تحولت إلى ساحة صراع ما بين إيران والولايات المتحدة، وبين تركيا وحزب العمال الكردستانى.. الكاظمى أول رئيس وزراء للعراق منذ الغزو الأمريكى لا ينتمى إلى «حزب الدعوة» التابع لإيران، فضلًا عن أنه أول رئيس للمخابرات العامة العراقية يتم تصعيده رئيسًا للوزراء، ما يعنى إلمامه التام بكل الملفات والمعلومات المتعلقة بالأمن القومى والعوامل المؤثرة فيها، وتلك فرصة ذهبية لاقتحام جدّى لمشكلات العراق، ووقف عملية التدهور فى وضعيه السياسى والأمنى، واستعادة استقراره الداخلى، واسترداد سيادته المفقودة.