رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفساد وسنينه «٣»


المعلومات التى انتشرت مؤخرًا عن التحقيق مع أحد كبار رجال المال والأعمال، بشأن تجاوزات فادحة لقوانين الدولة، وانتهاكات فاضحة للمال العام فاقت فى مجموعها الـ١٢ مليار جنيه، وما خفى كان أعظم- تفتح ملفات عديدة فى هذا الشأن، وهى ملفات لا يجب الصمت فى مواجهتها، مهما كانت الحُجج والتَعِلَّات، ذلك أن ضرر الفساد لا يتوقف وحسب عند الخسائر المادية، وما أعظمها، وإنما يمتد، كما يرى الخبراء والمختصون، لأن يُصبح أحد أهم مُعوقات التنمية والتطور الاقتصادى والسياسى والاجتماعى، ومن ثم فهو يُهدِّد استقرار المجتمعات وازدهارها، ويُفاقم من مُشكلاتها وأزماتها، ويُزيد من تردى الأوضاع فيها.
وقد حاولت إحدى الدراسات الاقتصادية الاجتماعية، أن تصوغ «مُعادلة رياضية للفساد»، حتى يسهل فهم أسبابه، وبالتالى رسم المُخططات المُناسبة لمحاربته، فوضعتها على النحو التالى: «الفساد= الاحتكار+ سلطة تقديريةــ المُساءلة».
فتركيز سلطة «المنح والمنع» فى يد نفر محدود من الموظفين المُتنفذين، ومنحهم سُلطات واسعة للتصرُّف فى أملاك الدولة وأموالها، بلا مُتابعة مستمرة، ورقابة دائمة، ومساءلة لا تنقطع- يُساعد على إشاعة مناخ وقيم التفسُّخ والفساد، وعلى اعتياد التعاطى مع مواضعاته والتعايش مع ثقافته، وبحيث يأتى حينٌ من الدهر، يُصبح فيه الفساد أمرًا اعتياديًا، وجزءًا صميمًا من أسلوب حياة الناس، ويتحول، بهذا الوضع، إلى سرطان يفتك بالأمة من داخلها، يفوق خطره أى تهديد خارجى، ويدفع بالدولة إلى تخوم الفشل الكامل، حيث تختطف فيه جماعات الفاسدين الدولة، كرهينة لتحقيق أغراضها وتنفيذ مآربها.
وهنا لا تكون المشكلة فى الفساد مجرد رشوة عارضة، تدُفع للتحصُّل على مكسب غير مُستحق، أو تحقيق منفعة غير مشروعة، أو حتى لنيل حق مشروع طال الجرى خلفه دون جدوى- وإنما لأن الفساد حين يفرض شروطه، ثم يبرز مُختالًا فى أعمدة الصحف وشاشات التليفزيون والإعلانات والمهرجانات وخلافه، إنما يُصبح، كما تقول إحدى الباحثات: «نظام له مؤسساته، والتى تسعى من خلال شبكات من الأصدقاء المُقربين، لإثراء أنفسهم بالحصول على مراكز سياسية أو تجارية، والسيطرة عليها، ومُمارسة ضغطهم غير القانونى من خلالها».
إنها، كما يطلق عليها بعض علماء الاقتصاد، «رأسمالية المحاسيب»، التى انتشرت فى عهود مضت، وكانت أحد الأسباب الرئيسية لانفجار الثورة عليها وعلى نتائجها. فعند هذا الحد، كما تقول الباحثة، «تُصبح المسألة مسألة حياة أو موت، ذلك أن الفساد يمكن أن يُفسد الحياة الاقتصادية لبلدٍ بأكمله»، وأزيد: إن خطر شيوع الفساد، فى هذه الحالة، لا يتهدَّد الحياة الاقتصادية وحسب، وإنما يُهدِّدُ بتدمير البنية السياسية والاجتماعية والأخلاقية للبلد المُصاب بسرطان الفساد، ويدفع المجتمع والدولة إلى مُستنقع لا منجاة من السقوط فيه، ويسلب شرعية النظام السياسى برمته، ويعزله عن الناس، ويُفقده رصيد احترام المواطنين له ولأدائه.
ومن سوء الحظ، أن ظاهرة «العولمة»، وبالذات فى جانبها الاقتصادى والتقنى، التى تجاوزت الحدود، وتخطَّت القيود، وحقَّقت سيولة حركة الناس والبضائع والأموال والممتلكات- خلقت بذلك فرصًا هائلة لتكديس الثروات غير المشروعة فى أغلب حالاتها، وتهريبها بضغطة زر على جهاز الكمبيوتر أو التليفون، حتى تكون بمأمن من المساءلة أو المُصادرة.
ومن هنا، وأخذًا بمبدأ: و«دَاونى بالتى كانت هى الداءُ»، فإن استخدام التطور التكنولوجى الذى يُتيح التهريب السهل للأموال غير المشروعة، من أجل حصار الفساد والتضييق على الفاسدين، ضرورة واجبة وإمكانية متوافرة، عبر استخدامه لإتاحة المعلومات بشفافية كاملة، والفصل القطعى بين مُتقاضى الخدمة الرسمية، وبين الموظف المسئول، وفرض رقابة صارمة على المُتصرفين فى شئون الدولة ومصالحها، وتغليظ العقوبة وتعزيزها، على كل من يلجأ لاستخدام سلطة الموظف العمومى للتربح الخاص، وتنفيذها بصرامة لا مجال فيها للتهاون أو التراجع، كلها أدوات مهمة لمحاربة هذه الظاهرة الخطيرة.
إن أولى وأهم أدوات مكافحة الفساد، تكمن فى تأسيس فعلى لـ«دولة القانون»، والفصل التام بين دوائر عمل واختصاصات السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهناك بالطبع عشرات الاقتراحات الأخرى، التى لم يبخل بطرحها علماء الفكر والاقتصاد والاجتماع والسياسة، للحد من التأثيرات الضارة لانتشار الفساد، لعل فى مقدمتها ما ذكره «يوجينور راؤول زافاراتى»، الرئيس الأسبق للاتحاد الدولى للقانون الجنائى، «I A L P»: «إن أول خطوة فى الحرب ضد الفساد تكون بتنفيذ إصلاحات سياسية ومؤسسية، مُصَمَّمة لتعزيز توازن أفضل للقوة، وحرية أكبر للمعلومات والكلام، وأوسع مُشاركة مُمكنة من المواطنين فى إدارة ورقابة الشئون العامة».