رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإخوان جنود الصهيونية


نعرف أن جماعة الإخوان هى التى وضعت الصياغة العصرية لمشروع الإسلام السياسى، وهو فى الحقيقة مشروع لا علاقة له بالإسلام من قريب أو بعيد، وعبر سنوات طويلة دافعت فيه الجماعة عن هذا المشروع، وخدعت به الآلاف بل الملايين من المسلمين، واستطاعت بالفعل أن تصل إلى الحكم فى مصر لمدة عام، إلا أن وصولها للحكم كان هو التوقيع النهائى منها على فشل مشروع الإسلام السياسى الذى قادته، إذ كانت الشعارات التى رفعها أصحاب هذا المشروع ودغدغوا بها مشاعر الشباب هى أنهم يسعون إلى تديين السياسة وتخليصها من أدرانها، وتحديد مسارات أخلاقية لها، ولكن العكس هو الذى حدث، فقد قاموا بتسييس الدين، وتحويله إلى دين قومى لفئة من الناس، هو أمر مشابه لفكرة اليهود عن الألوهية.
فالله عند اليهود هو إله قومى، لهم وحدهم دون غيرهم، سيدخلهم وحدهم الجنة، وقد خلق باقى البشر لخدمة اليهود، وهى فكرة عنصرية ضخّمتها الصهيونية، والصهيونية كما نعلم هى بمثابة «اليهودية السياسية» أو الحزب السياسى للدين اليهودى، وقد أساء الصهاينة لليهودية، كما أساء مشروع الإسلام السياسى للإسلام، فعند مشروع الإسلام السياسى منذ عصور طويلة هناك فكرة الفرقة الناجية، والفرقة الناجية هى فكرة سياسية بامتياز تمت تغطيتها بثوب إسلامى وتفصيل حديث نسبوه للنبى بشأنها، واستخدمت كل الفرق الإسلامية فكرة الفرقة الناجية لتثبت أنها هى التى ستنجو من النار دون غيرها، ليس دون غيرها من الأديان الأخرى ولكن الفرقة الناجية من بين المسلمين الذين سيكونون وقودًا للنار! وكأن الله خلق الخلق كلهم للنار وخصص الجنة لفرقة بعينها، فى زمن بعينه.
وقد توغل هؤلاء فى دمج بعض الأفكار السياسية بالدين، ودمج بعض التجارب الإنسانية للمسلمين الأوائل فى الدين نفسه، مع أن تجاربهم فى الحكم والسياسة كانت محض تجارب بشرية، وقد كتبتُ من قبل فى أحد كتبى أن كل فرق الإسلام السياسى زعموا أنهم سيُصلحون السياسة بالدين، فأفسدوا دينهم بالسياسة، ثم أفسدوا السياسة بمفاهيم التقية، والضرورات تبيح المحظورات، والكذب، والتخوين، والتشويه، والتكفير.
وقد كان من أسباب هذا الفشل عدة أشياء، أولها: أنهم اكتفوا بالشعارات الدينية التى تؤثر فى المشاعر، دون أن يقدموا مشروعًا سيًاسيًا متكاملًا قابلًا للتطبيق ويتفق مع متطلبات العصر، وثانيها: أنهم استخدموا بعض القواعد الفقهية فى مجال السياسة وتوسعوا فى استخدامها بشكل أساء للدين، وأفسد السياسة.
وثالثها: أنهم نظروا باستعلاء للآخرين وزعموا أنهم يمتلكون الحقيقة المقدسة، والسياسة ليست فيها حقيقة مقدسة، ورابعها: أنهم انغلقوا على أنفسهم ورفضوا الانفتاح على القوى السياسية المختلفة، وخامسها: أنهم آمنوا بالديمقراطية بشكل وقتى إلى أن وصلوا للحكم، ثم انقلبوا على مفاهيم الديمقراطية بعد ذلك، وسادسها: أنهم أعادوا إنتاج الفقه السياسى القديم فى عصور الإسلام الأولى وأرادوا أن يحكموا به الواقع الحالى رغم اختلاف الزمان والمكان، وحدوث تطورات غيّرت الدنيا كلها.
كما أننى لا أتفق مع القول بأنهم تأرجحوا بين تحقيق متطلبات العقيدة وتحقيق متطلبات الإدارة السياسية، لأنهم فى الحقيقة لم يفكروا فى تحقيق متطلبات العقيدة، ولكنهم فكروا فقط فى استغلال الدين وقواعده الفقهية لتحقيق مصالحهم السياسية.
وأضرب مثلًا فى ذلك بقاعدة ذكرتها الآن وهى قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات» وهى قاعدة فقهية يتم تطبيقها فى أضيق نطاق، وللحفاظ على الحياة فقط، وهذا هو المفهوم الصحيح للدين، وإلا لأصبح الدين قائمًا على مفهوم «مكيافيلى» الغاية تبرر الوسيلة، وكان من نتاج ذلك أن أصبح كل ما نهى عنه الدين من كذب وتزوير وتزييف وتشويه سمعة الناس وسبهم وغير ذلك هى من المحظورات التى يجوز فعلها لأنه سيترتب عليها كما يقولون ضرورة هى أعلى الضرورات، ألا وهى وصول الإسلام للحكم، وبقاء الإسلام فى الحكم، مع أن الذى سيصل للحكم هو السيد فلان الإخوانى وليس السيد «إسلام»، الذى هو دين وليس شخصًا أو جماعة.
ولذلك فإننا نستطيع القول بيقين إن مشروع الإسلام السياسى الذى ولد فى العصر الحديث على يد جماعة الإخوان عام قد انتهى وذهب إلى متحف التاريخ، وسبب ذلك أنه لم يقدم للأمة ما وعدها به، وتحوَّل إلى مشروع قائم على استخدام القوة لتحقيق الأهداف السياسية، وفكرة استخدام القوة ليست وليدة العصر الحالى عند هذه الجماعات، ولكنها كانت فى ضمير المؤسسين لجماعة الإخوان، فحسن البنا فى رسالة المؤتمر الخامس قال جملة شهيرة هى «ذات يوم سنستخدم القوة فى مواجهة قومنا حين لا يُجدى إلا القوة».
وبعد ذلك وضع «سيد قطب» نظريته فى وجوب استخدام القوة لإرغام الناس على تطبيق الإسلام، وفى ذلك يقول: «إن الإسلام ليس نظرية ولكنه دين، والدين يجب أن يخضع له الناس لا أن يخضع هو للناس، ولا يمكن أن نستفتى الناس على تطبيق الإسلام، فإن رفضوه فلا مجال إلا القوة لإرغامهم على الانصياع لمنهج الله»، وظلت تلك الأفكار حبيسة فى الكتب، محصورة فى ضمائرهم إلى أن خرجت تطبيقات للعنف مع جماعات التكفير والهجرة فى السبعينيات، والجماعة الإسلامية والجهاد، ثم رأينا بعد ذلك التطبيقات العملية الكبرى عملية لمفهوم العنف فى مواجهة المجتمعات مع ثورات الربيع العربى.
وقد ظن البعض أن ما حدث للمشروع الإسلامى وممثلته الكبرى جماعة الإخوان هو مجرد كبوة، لأن هذا المشروع تعرض عبر تاريخه الحديث لأزمات ثم تجاوزها، وهذه مغالطة، لأن هذا المشروع فى أزماته القديمة، سواء فى مصر أو سوريا أو تونس أو ليبيا أو العراق كان يدخل فى خصومة مع الأنظمة والحكومات فظهر بمظهر الضحية التى يتم اضطهادها لأنها تريد الإسلام فكان أن تعاطفت معه الشعوب، وهذا التعاطف هو الذى أعطى لهذا المشروع أسبقية على المشروعات السياسية الأخرى بعد الأحداث التى أطلق عليها الغرب «الربيع العربى».
ولكن بعد هذا الربيع العربى ومع تجاربهم للحكم فى مصر وتونس، وصراعهم على الحكم فى سوريا وغيرها، وارتمائهم فى أحضان تركيا، وعمالتهم الواضحة لإنجلترا، وتبعيتهم المخزية لقطر- إذا بهم يدخلون فى خصومة ليس مع الأنظمة ولكن مع الشعوب بحسب أنهم أصبحوا هم الأنظمة.
كما أنهم شقّوا وحدة بلادهم وفتتوها فى سوريا وليبيا والعراق، وإذا نظرنا حولنا ورأينا رغبة الشعوب فى تجديد الخطاب الدينى، وإلحاحهم على ذلك، فإننا سنرى الوعى الجمعى للشعوب وهو ينتج مشروعًا بديلًا هو مشروع الإسلام الإنسانى الذى يجمع ولا يفرق، ولا يدخل فى خصومة مع أحد وهدفه هو عمران الإنسان، الذى يجب أن يأخذ مكانه فى الحضارة الإنسانية.
ورغم أننا نعيش حاليًا وسط عدة أزمات وتحديات أعتقد أنها الأكبر على مدار التاريخ، ومن هذه الأزمات التى ظهرت بقوة فى بعض الأقطار العربية ما أستطيع أن أسميه «صراع الهويات» وبدلًا من أن يوحدنا الوطن ويجمعنا فى هوية واحدة، أو فى هويات متنوعة ولكنها متعاونة ومتآلفة تكون كلها فى خدمة الوطن والإنسان- إذا بهذه الهويات المختلفة تجعلنا ندخل فى صراعات أشبه ما تكون بصراعات البقاء أو الفناء، وكأن لا حل إلا بإبادة الآخر.
وأعتقد أن المثقف الحالى أو السياسى الحالى ليس لديه قدرة على الحل أو الاحتواء، ولكن الأمر يجب أن يقوم به كل المجتمع بكل طوائفه ومؤسساته، عن طريق التضافر بين الجميع لإحياء مشروع الدولة الوطنية، والحقيقة أن الصراعات الحالية تهدد بقوة بقاء بعض الدول الوطنية العربية، ومن الممكن أن تُمحى هذه الدول من الجغرافيا، وبالتالى تُمحى من التاريخ، واليمن أمامنا خير مثال على ذلك، وليبيا وسوريا كذلك.
وإذا أردنا أن نضع خاتمة لهذا المشهد الحالى سنرى أن الوحيد الذى حقق مكسبًا كبيرًا من تبعيات الربيع العربى، وظهور جماعة الإخوان وصراعها على الحكم هو المشروع الصهيونى، فمما لا شك فيه أن مشروع الإخوان كان هو الكنز الاستراتيجى لإسرائيل، وهو الذى ساعدها على تفتيت جبهة الجهاد الفلسطينى، وهو أيضًا الذى قضى على المشروعات الديمقراطية الناشئة فى بلادنا، وهو الذى سمح للقاعدة والدواعش بالوجود فى بلادنا، ولذلك نستطيع القول «إن الإخوان كانوا بحق جنودًا للصهيونية فى العصر الحديث، فهم جماعة الإخواصهيونية».