رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لمن يلومون فيروز.. زهقنا منكم جدًا


زار الرئيس الفرنسى «ماكرون» الفنانة الكبيرة فيروز فى بيتها بمنطقة الرابية شمال بيروت، مساء الإثنين ٣١ أغسطس، ومنحها وسام «جوقة الشرف»، وهو أعلى تكريم رسمى فى فرنسا.. ولم تكف منذ ذلك الحين حملات التوبيخ والتأنيب واللوم على فيروز لأنها استقبلت الرئيس الاستعمارى الإمبريالى وقدمت له القهوة وقبلت منه الوسام بدلًا من أن تصفعه وتطرده وتلاحقه على سلم البيت وتتعقبه فى الشارع وهى تدق على الطبلة: «مع السلامة يا أبو عمة مايلة»!.
الاعتراضات الأشد سخافة كانت للأسف من منطلق الوطنية والقول إن: «فيروز فضّلت لقاء المحتل على لقاء محبيها من المعجبين»، وإنه كان عليها: «رفض الزيارة لأن ماكرون رمز لقوة استعمارية احتلت الجزائر ولبنان»، وأخيرًا الحديث عن «دور الفنان الملتزم وتخلى فيروز عن دورها».
معظم هذه الانتقادات الحادة جاء من طرف شخصيات وطنية لا يرقى الشك إلى تاريخها لكن يرقى الشك إلى مدى فهمها الصحيح للأمور.. ذلك أن أحدًا لم يسمع من قبل عن أن فنانًا أو سياسيًا رفض استقبال رئيس جمهورية أو حتى وزير أو مجرد مبعوث دولة، لأن القاعدة هى أننا نلتقى السياسيين وقد نحاورهم أو نتفاوض معهم، والمهم فى النهاية ألا نفرط خلال اللقاء فى شىء جوهرى من مبادئنا أو مصالحنا.. وقد التقى عبدالناصر بـ«إيدن»، رئيس وزراء بريطانيا التى كانت تحتل مصر، ولم يتنازل فى اللقاء عن ذرة من كرامته أو حقوق وطنه، والأمثلة كثيرة.. وبالطبع فإن «جارة القمر» لم تمنح ماكرون كلمة تأييد أو تشجيع واحدة لأطماعه أو خططه للهيمنة على لبنان، فقط استقبلته وتلقت الوسام وشكرته، ولم تكن تلك هى المرة الأولى، فقد سبق أن منحها الرئيس الفرنسى «ميتران» وسام الفنون عام ١٩٨٨، ومنحها الرئيس «جاك شيراك» وسام الشرف عام ١٩٩٨.
وليس أسهل من أن يقوم البعض بإدانة فيروز، وتحميل الفنان، فيروز أو غيرها، مسئوليات ودور ومهام الحزب السياسى والقادة الثوريين، فيوبخونه قائلين: لماذا لم تقم بالشىء الفلانى؟ ولماذا فعلت كذا ولم تفعل كذا؟.. لكن الفنان ليس حزبًا، ولا منظمة سياسية، واختصاص فيروز الأول والأخير هو الغناء، وفى مجال اختصاصها أبدعت فيروز وطوّرت الأغنية العربية وأسعدت الملايين بفنها، وفى ذلك كله يكمن عملها الثورى، لكنها ليست مطالبة بأن تكون قنبلة سياسية تنفجر فى وجوه الرؤساء.
أما الذين قرعوها فإنهم لم يحاسبوا أنفسهم عن فشلهم فى تنظيم مظاهرة شعبية حاشدة فى لبنان لرفض زيارة ماكرون، لكنهم حاسبوها هى، ولم يحاسبوا أنفسهم عن أسباب عزلتهم عن الجماهير، وفشلهم فى العثور على ما يخرج بهم من انفصالهم عن الشارع، لكنهم يطلبون من فيروز أن تطرد الرئيس تعويضًا عن فشلهم، وأن تتصدر هى المقاومة تعويضًا عن إخفاقهم فى المقاومة.. الفن اختصاص فيروز، والسياسة اختصاص آخر، لم ينجح أصحابه فى تحريك حركة شعبية لتطوير الوعى، وبدلًا من النظر إلى الخشبة التى فى أعينهم ينظرون إلى قشة فى عين فنان، وينحصر نشاطهم الثورى فى تخطئة هذا الموقف أو ذاك، فى وضع علامة صح وعلامة خطأ على فنان أو آخر، بينما لا أثر لهم ولا وجود ملموسًا فى المجتمع، إنهم يضعون على عاتق الفنانين كل المهام التى فشلوا فى القيام بها.. ولو أن فيروز قامت بالرد على لائميها لذكّرتهم على الأغلب بالمثل الشعبى اللبنانى القائل «ألف زلغوطة ما جوزت عريس»، أى أن ألف زغرودة لا تحول رجلًا أعزب إلى متزوج، أى أن كثرة الكلام والسفسطة لا تغير شيئًا فى الواقع، وفارق بين أن تكون مهمتك أن تضع ساقًا على ساق وتزعق «هذا سليم، هذا غلط»، وبين أن تثبت أن لك فى الواقع الاجتماعى والسياسى وجودًا بين الناس، لأن العمل السياسى اختراع الطرق الصحيحة لحشد الجماهير والارتقاء بوعيها، إلا أن البعض يفترض أن مهمته الأولى هى التوبيخ والتقريع، لكن أحدًا لا يصبح قديسًا من أخطاء الآخرين.
زهقنا جدًا من الشقشقة الفارغة، ومن آلاف الزلاغيط التى لا تغير شيئًا.. غيروا الواقع أو أظهروا لنا أنكم تحاولون ذلك على الأقل، وحينئذ ستلهمون الفنانين والعلماء والمثقفين بالوقوف إلى جواركم، لكن من المزعج أن يقتصر العمل على العجز مقترنًا بتوبيخ الآخرين وإبداء الأستاذية الفارغة.. زهقتونا جامد.