رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هانى مهنا يتذكر أيامه مع الكبار: عبدالحليم كان يغار من أم كلثوم.. وبخل عبدالوهاب «أكذوبة»

هانى مهنا
هانى مهنا

الموسيقى فى حياة الموسيقار الكبير هانى مهنا ليست مجرد مهنة، لكنها حالة أوسع تحتل موقع الصدارة فى رحلته مع الحياة، فهى حب عمره وعشقه الأبدى.

على أنغام موسيقاه الرائعة والخالدة دار حوار «الدستور» معه، فى حديث عزف من خلاله ألحانًا شتى تنوعت بين ثنائيات الحب والوفاء، الأمل والشجن، وغيرها من النغمات التى يعرفها، كاشفًا عن أسرار جديدة من سيرته الثرية وحياته الصاخبة.

تربيت على جلسات الإنشاد.. والجمهور كان يهتف باسمى فى حفلات «العندليب» حتى أصاب بالخجل

السبب فى عشق الموسيقار الكبير هانى مهنا الموسيقى كان والده ضابط الشرطة، فهو أول من زرع بذرة محبتها داخل أعماقه.. فكيف حدث ذلك؟ وكيف انطلقت رحلته فى عالم الفن؟
- كانت من العادات الدائمة لوالدى، ليلة الخميس، دعوة بعض الفقهاء والمنشدين، لقراءة القرآن وأداء بعض الأناشيد الصوفية العذبة الرقيقة فى بيتنا، ولم يكن مسموحًا لأحد باختراقها، سواء من إخوتى أو أقاربى، لكن خلافًا لتلك القاعدة استثنانى والدى ومنحنى إذنًا بالدخول.
كنت أبلغ من العمر وقتها ٤ سنوات، وظللت مواظبًا على الحضور دون انقطاع، خاصة أن هذه الجلسات منحتنى تشبعًا بمعنى النغمة الشرقية وأصالتها وعمقها وسهولتها ورقتها وعذوبتها وحرفيتها.
وللأسف لم يُطل والدى البقاء معنا ورحل مبكرًا دون استئذان، لتتغير حياتنا بعدها كثيرًا، بداية من مغادرة قريتنا «أكياد» فى الشرقية، والانتقال إلى القاهرة للاستقرار بها، ثم أخذت حياتى اتجاهًا مغايرًا مع التحاقى بالمدرسة الابتدائية.
فمع بداياتى الدراسية انطلقت فى مسار مواز معها رحلتى الموسيقية، والسبب كان طابور الصباح، الذى كُلفت فيه بالعزف على الآلات الموسيقية بشكل يومى، وأتذكر أننى فى مرة، وأنا تلميذ فى الصف الثانى الابتدائى، بلغت حرارة جسدى ٣٨ درجة، وقررت والدتى عدم ذهابى إلى المدرسة، لكنى تمردت على رأيها شارحًا ومبينًا سر إصرارى على التواجد بقولى: «لو مروحتش.. زمايلى مش هيطلعوا الفصول!»، فأذنت لى على الفور بالحضور.
تلك اللقطة رغم عفويتها وبساطتها، كانت فارقة جدًا فى مسيرتى، حيث تولد لدى شعور بالانجذاب نحو الموسيقى، ما دفعنى لشراء بعض الآلات الموسيقية، وأداء بعض المقطوعات التى يقدمها عبدالحليم حافظ ومحمد فوزى.
بعد فترة وجدت نفسى حققت نوعًا من «البلوغ الفنى»، لكن حتى يصل هذا البلوغ حد الاكتمال والارتواء كان لا بد من إشباعه بالدراسة، وهنا حدث الصدام بينى وبين إخوتى، الذين شغلهم الخوف على مستقبلى، خشية أن ينتهى بى المطاف «عازفًا لعوالم شارع محمد على!»، وفق تعبيرهم.
ربما كانوا مُحقين فى اعتقادهم، خاصة أننى بالفعل كنت متفوقًا فى الدراسة ودائم الحصول على درجات عالية، وأذكر أننى كنت طالبًا فى الصف الثانى الثانوى، بالتزامن مع عملى عازفًا فى فرقة تحية كاريوكا، ولم يُعطلنى ذلك عن نجاحى بتفوق.
معهم انتصرت فيه رؤيتى بضرورة دراسة الموسيقى، وذلك بهدف الأفضلية التى يتمتع بها الشخص الذى يجيد قراءة «النوتة» عن نظيره «السماعى» المنتشر آنذاك بشدة، وأبرزهم فاروق سلامة، فضلًا عن تحقيق الجمع بين العلم والموهبة.
لاحقًا بدأت الدراسة فى بعض المعاهد الأوروبية المتخصصة فى الموسيقى، وبعد أن أنهيت مدتى عُدت إلى مدينة القاهرة معشوقتى الدائمة والأبدية التى لا أطيق الابتعاد عنها أينما ذهبت، وانتظمت من جديد فى العمل مع فرقة تحية كاريوكا. وذات يوم وأنا أجرى بعض «البروفات» مع الفرقة، داخل معهد الموسيقى العربية فى رمسيس، وجدت المسئول عن الفرقة فايز حلاوة يحضر وبصحبته صديقه المقرب الموسيقار بليغ حمدى، الذى حين سمعنى انجذب لموسيقاى، وعرض علىَّ الذهاب للعمل مع الفنان محمد رشدى.
وبالفعل ما هى إلا أيام وذهبت للعمل مع «رشدى»، الذى كان يُحضر لتسجيل أغنيته الشهيرة «ع الرملة»، ولم يمضِ وقت كثير حتى أتانى عرض جديد بالعمل فى مسرح منوعات فتحية محمود فى شارع الألفى، الذى كان يطل من على خشبته عتاولة الفن أمثال محمود شكوكو، وثريا حلمى، ومحمد عبدالمطلب، وزينات علوى.
بعد سنوات من العمل داخل هذا المكان وصلنا إلى عام ١٩٦٩، وتلك السنة تحديدًا شهدت ميلادى الفنى وإطلالتى الحقيقية داخل عالم الموسيقى، وذلك بعدما ظهرت أمام الجماهير كعازف «أكورديون» ضمن فرقة فريد الأطرش خلال «حفل الربيع»، ولفت الأنظار بحكم سنى البالغة ٢٣ ربيعًا فقط، ومن وقتها بدأ صيتى فى الانتشار داخل الوسط الفنى. بعدها انتقلت من العمل على «الأكورديون» إلى «الأورج» فى بدايات ظهور المطربة عفاف راضى، وكان بديلى الذى أخذ مكانى على «الأكورديون» هو عمار الشريعى، وبعد ذلك دعانى «بليغ» مجددًا للعمل مع «الفرقة الماسية» بصحبة نجاة الصغيرة، ثم جاءت القفزة عندما شاهدنى عبدالحليم حافظ فأخذنى للعمل معه، لتبدأ رحلتى فى رحابه التى لم تتوقف إلا برحيله.
ومع توالى تلك النجاحات، حققت نقلة مهنية كبرى بالعمل فى رحاب السيدة أم كلثوم، التى طلبتنى للعمل معها عام ١٩٧٣، وعزفت لها «ليلة حب» و«حكم علينا الهوى»، ومن هنا بدأ المجال الفنى بأكمله يلتفت إلىّ، ومعى على ذات الدرجة عمر خورشيد، وأصبحنا نجمين يهتف باسمينا الجمهور فى الحفلات رغم صغر سننا، لدرجة أننا كنا نشعر بـ«الكسوف».
وباتت تلك العادة سمة مكررة فى حفلاتنا المختلفة، لكنها كانت تظهر بوضوح مع «العندليب الأسمر»، والذى حين لاحظ شعورنا بالخجل خاطبنا مستفسرًا: «إنتم بتتكسفوا ليه؟... نجاحكم ده إضافة ليا».

وفاة عمر خورشيد أصعب لحظات حياتى.. وكنت مرشحًا لبطولة «حتى آخر العمر»

على تنوع النجوم والملحنين الذين تعامل معهم وعاصرهم الموسيقار الكبير هانى مهنا، نجحت موسيقاه فى أن تكون ذات نغمة خاصة ومميزة، تمثل استيعابًا لكل الذين اقترب منهم.. لكنه مثلما اقترب منهم فنيًا اقترن بهم إنسانيًا.. فكيف كانت حياة هؤلاء العمالقة وراء الكواليس؟
- عندما بدأت أولى خطواتى الموسيقية كان هذا العصر مليئًا بالنجوم فى التلحين والغناء، لكن أجمل ما ميزهم هو تفرد كل واحد منهم عن الآخر بلمسة خاصة، لدرجة أننى لحظة استماعى إلى أى مقدمة موسيقية، كنت على الفور أعرف ملحنها من خلال الإحساس.
وأعتقد أن تلك الحالة سببها العمل منذ صغرى فى حضرة الكبار، فقد عملت مع «فريد» فى عز تألقه، وعزفت لـ«حليم» فى ذروة توهجه، وأيضًا لـ«الست» وهى فى قمتها. ومثلما تعلمت منهم وعملت معهم، أتاح لى القدر فرصة اكتشافهم من وراء الستار. فمثلًا عندما اقتربت من فريد الأطرش وجدت أمامى إنسانًا شديد الطيبة، سريع الغضب، عظيم الكرم، لكن نقطة ضعفه كانت تتمثل فى رد فعله على بعض المواقف، فدائمًا غضبه يسبق تفكيره، عكس «عبدالوهاب» و«عبدالحليم»، اللذين يفكران قبل أن ينطقا.
لكن يبقى أهم ما يميز «فريد» هو فرحته بنجاح زملائه، وأتذكر أنه أقام حفلة احتفالًا بنجاح فاتن حمامة فى فيلمها «أريد حلًا»، وقال حينها: «هذا النجاح ليس تفوقًا يحسب لها وحدها، لكنه نجاح لمهنة الفن»، ويبقى هو ومحمد القصبجى أعظم عازفين للعود فى التاريخ.
أما «عبدالحليم» فهو الفنان الأكثر ذكاء وربما دهاءً، لكنه امتلك قلبًا يشبه الأطفال، فحين يملك شيئًا تجده لا يريد أحدًا يشاركه فيه، وكان محبًا للشخص «الشاطر» فى مجاله، لذلك أحاط نفسه دائمًا بكل أو معظم نجوم عصره، من ملحنين ومصورين ومؤلفين، حتى «الكوافير». وكان «العندليب» يمرر، على مضض، فكرة عزفى للثنائى نجاة وفايزة أحمد، بينما يشتعل غضبًا من عملى مع «كوكب الشرق»، وإن أخفى ذلك، وأتذكر أنه التقانى فى اليوم التالى لبداية عملى مع أم كلثوم، فقال لى بسخرية: «مبروك يا سيدى شغلك مع الست!».
وللعلم لم ألحظ أو أرَ حالة الغيرة أو الصدام التى كانت تروج لها الصحافة بين «حليم» و«فريد»، صحيح كان هناك بعض الخلافات بينهما، لكنها ليست بنفس الدرجة التى روجها الصحفيون آنذاك.
وبالنسبة لـ«أم كلثوم»، كان عملى معها حالة خاصة ومفاجأة ليست منتظرة، حيث فوجئت بها تتصل بى هاتفيًا دون وسيط، عارضة علىّ الانضمام لفرقتها قائلة: «عندك مانع تشتغل معايا؟».. وطبعًا كان من المستحيل أن أرفض.
وبعد الحديث عن «الست» يأتى الكلام بصورة تلقائية عن الأستاذ «عبدالوهاب»، ذلك الرجل الذى لم أشهد منه إلا كل ما هو جميل، فقد كان دائم التدليل لى، وأشعر فى وجوده بأننى فى حضرة والدى.
وأود هنا أن أنفى بعض الصفات التى التصقت بـ«عبدالوهاب»، مثل البخل، من خلال عدة مشاهد، أولها مبادرته الدائمة بدعوتى و«عزومتى» عنده بالمنزل فى أكثر من مناسبة، أهمها الحفلات التى كان يقيمها ويحضرها كل رموز المجتمع من أطيافه المختلفة، وأبرزهم السيدة جيهان السادات.
أما المشهد الثانى فحدث أثناء تسجيلنا «بروفات» إحدى الأغنيات، فبعد أن انتهينا وهممنا بالانصراف، وجدته يطلب منى وعمر خورشيد الانتظار بضع ثوان، ثم أتى إلينا ومنح كلًا منا ٥٠ جنيهًا، وكان مبلغًا «معتبرًا» بمقاييس ذلك الزمن.
وبالنسبة لـ«عمر خورشيد»، كان صديق عمرى القريب من عقلى وقلبى، رغم بعض الفوارق بيننا، فهو كانت لديه نزعة «الأنا» عالية بعض الشىء، ويبحث عن الوصول إلى النجومية بسرعة، ما دفعه لامتهان التمثيل بجانب الموسيقى.
وحدثنا المخرج رمسيس نجيب عارضًا علينا اقتسام بطولة فيلم «حتى آخر العمر»، لكنى رفضت خشية أن تشغلنى الأفلام عن الموسيقى، وأمام إصرارى على الرفض حل مكانى محمود عبدالعزيز.. وأعتقد أن وفاة «عمر» واحدة من أقسى لحظات حياتى.


قلت للمعترضين على الهضبة: «ذكاء هذا الشاب يفوق صوته»


لم يغب الموسيقار الكبير هانى مهنا عن عرش النجومية والحضور الفنى منذ ظهوره وإلى الآن.. ففى رمضان الماضى قدم لحن تتر مسلسل «ليالينا ٨٠»، الذى صنع من خلاله تركيبة فنية وجملة موسيقية أشاد بها الجمهور وأعجبت النقاد.. فكيف نجح الرجل فى الحفاظ على بريقه طوال هذه السنوات؟
- هناك العديد من العوامل وراء ذلك، أهمها إخلاصى للموسيقى، فمثلما ذكرت سابقًا، رفضت عروض التمثيل خوفًا من أن تشغلنى عن العزف والتلحين، إلى جانب عملى فى أكثر من نمط فنى، ففى توقيت متزامن كنت أمارس العزف، وأعمل قائدًا لفرقة موسيقية، وأقدم الموسيقى التصويرية لعدد كبير من الأفلام والمسلسلات.
وأعتقد أن تأليفى الموسيقى التصويرية لعدد من الأعمال الفنية منحنى توهجًا وبريقًا بحكم انتشارها الكبير، وأنا هنا مدين بالفضل للراحل النبيل سليمان جميل، الذى كان أول من علمنى فلسفة ذلك الفن وشروط نجاحه، وأهمها بناء جدار ثقة مع مخرج العمل.
وحين أعود بذاكرتى إلى الوراء سنوات، أرى أننى نجحت فى إحداث نقلة فنية كبيرة لمحها الجمهور الذى شاهد مسلسل «الدوامة»، والذى قدمت تتراته دون غناء، فى سابقة من نوعها فى الوطن العربى، والحمد لله «علقت» مع المشاهد، لدرجة أن كثيرين كانوا يطالبوننى بأدائها خلال الحفلات التى أقدمها مع الفنانين، مثلما حدث فى حفلة المطربة وردة فى تونس.
وكانت هتافات ونداءات الجماهير بمثابة شهادة نجاح، لكن كانت هناك شهادة أخرى اقتنصتها، وهى جائزة أحسن موسيقى تصويرية لفيلم سينمائى، وهو «على ورق سلوفان»، التى سلمنى إياها الشهيد يوسف السباعى، وزير الثقافة، فى حفل كبير حضره حشد من نجوم الفن والأدب والثقافة.
وبشكل عام استفدت من تقديم الموسيقى التصويرية للأعمال الفنية، فمن خلالها نجحت فى دمج الجديد فى الموسيقى مع القديم، بهدف مجاراة العصر، وهو ما يتضح فى تتر مسلسلى الأخير «ليالينا ٨٠»، وقدرتى على تحقيق تلك المعادلة كانت أحد أسباب تأسيس فرقتى الموسيقية، التى من عبرها مر وظهر أبرز مطربى العصر الحديث.
وتلك الفرقة حين أسستها كان هدفى دائمًا إعطاء الفرصة لجيل الشباب، مثلما حدث مع هانى شاكر ومدحت صالح وعمرو دياب، والأخير تحديدًا حالة خاصة جدًا، فعندما أتانى لأول مرة، لم يكن يملك أغنية خاصة به، فقط كان يعيد غناء بعض الأغانى القديمة، مثل «توبة» لـ«عبدالحليم» وغيرها.
لكنى قرأت فى عينيه ذكاء حادًا جعلنى أؤكد للمحيطين بى أنه سيكون نجمًا، ورغم سخريتهم بالقول: «إنت بتقول إيه.. دا بتاع حركات»، قلت لهم: «ذكاء هذا الشاب يفوق صوته وغدًا ستدركون ما أقول».