رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تمرد باشاغا ومحاولة انقلاب إخوان مصراتة



ليس غريبًا أن تنصب مقالات الجمعة لأسابيع متتالية على تطورات الموقف فى ليبيا، والتوترات الراهنة شرق المتوسط.. مصر فى حالة استنفار وترقب منذ تفويض البرلمان للقوات المسلحة فى التدخل لحماية الأمن القومى المصرى فى ليبيا.. مما يفرض المتابعة الدقيقة لميدان قد يكون ساحة لحرب قريبة.
حراك ٢٣ أغسطس فى العاصمة الليبية طرابلس، طالب باستقالة السراج والمجلس الرئاسى، وكل الأجسام السياسية، وتسليم السلطة إلى مجلس القضاء الأعلى.. المجلس نظم مظاهرة مضادة، عجزت عن السيطرة على الشارع، فبدأت فى نشر الفوضى والاشتباك مع عناصر الحراك، ما وفر مبررًا لاشتباك الميليشيات، واعتقال ٢٠٠ عنصر وإصابة ٥٠، الحراك طالب بتدخل بعثة الأمم المتحدة، لضمان حق التعبير، والإفراج عن المعتقلين، والتكفل بعلاج المصابين، مهددين بإعلان «العصيان المدنى» وإغلاق شوارع العاصمة.. الداخلية ضبطت أحد المتهمين، وكشفت عن الميليشيا التابع لها، ما أثار المجلس الرئاسى، ودفعه لتكليف «القوة المشتركة» بضبط الأمن بالعاصمة، ومنحها صلاحيات تفوق الداخلية، رغم أنها ميليشيات جهوية، تتبع غرفة العمليات المشتركة للمنطقة الغربية.. إجراء السراج كشف عن خضوعه لميليشيات طرابلس، على حساب الجماهير الغاضبة.
مجموعات مسلحة تابعة للداخلية هاجمت منطقة النوفليين بطرابلس مستهدفة منزل السراج ٢٧ أغسطس، لكن الميليشيات منعتها من الاقتراب.. «قوة حماية طرابلس» التابعة للسراج حمّلت الداخلية مسئولية استهداف المتظاهرين، واتهمت فتحى باشاغا وزير الداخلية والإخوان المسلمين بالسعى للحكم بمختلف الطرق، بعدها أوقف المجلس الرئاسى باشاغا احتياطيًا عن العمل، وأحاله لتحقيق إدارى عاجل، يتعلق «بالتصاريح والأذونات والتجاوزات التى ارتكبت فى حق المتظاهرين، وعدم توفير الحماية اللازمة لهم، وتجاوز البيانات الصادرة عنه بشأن المظاهرات والأحداث الناجمة عنها.. السراج كلف خالد التيجانى وكيل وزارة الداخلية بتسيير مهام الوزارة، وممارسة الصلاحيات والاختصاصات السيادية والإدارية الموكلة للوزير.. كما كلف العقيد صلاح النمروش المحسوب على الميليشيات، وزيرًا مفوضًا للدفاع.. السراج تحت ضغط ميليشيات طرابلس يسعى لإعادة ترتيب الأوضاع، على نحو يقنن سيطرتها على الغرب الليبى.
ما تناقلته المصادر بشأن إحباط السراج محاولة انقلاب من مصراتة والإخوان مدعومة من تركيا وقطر، تجد مبرراتها فى أن تركيا غضبت من السراج، بسبب اتفاقه مع عقيلة صالح على وقف إطلاق النار، دون الرجوع لها، ما مثل إرباكًا لمخططاتها، التى تستهدف توسيع وتثبيت وجودها غرب ليبيا.. مجلس الأمن القومى التركى قرر التوجه نحو المزيد من الاعتماد على ممثلى الإخوان داخل القيادة الليبية والميليشيات التابعة لهم، ودفعهم لتصدر المشهد خلال المرحلة المقبلة.. مظاهرات طرابلس ومدن المنطقة الغربية عبرت عن الرغبة فى إسقاط السراج، ما أصاب تركيا بقلق بالغ، لأنها أدركت عمق تفاعلاتها، وتأثيرها على مستقبل نظامه، خاصة أنه أخفق فى توفير الخدمات وتشغيل المرافق، وعجز عن إدارة الأزمة السياسية، وأصبح أسيرًا لميليشيات طرابلس، مما سيؤدى إلى مزيد من إرباك المشهد.. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تدفع قطر خلال زيارة وزير دفاعها الأخيرة لطرابلس، العميد «حمد بن فطيس المرى» قائد القوات الخاصة القطرية الذى كان مسئولًا عن التسليح والعمليات الخاصة فى ليبيا خلال أحداث ٢٠١١، ولعب دورًا رئيسيًا فى اغتيال القذافى، وكلفته بالعمل على دفع الإخوان إلى صدارة المشهد، ودعم وتوحيد الميليشيات الموالية لهم، بحكم خبرته وعلاقاته كمؤسس لكتيبة «ثوار طرابلس».
زيارة الإخوانى القديم خالد المشرى رئيس المجلس الأعلى للدولة، والإخوانى النشط فتحى باشاعا وزير الداخلية لتركيا، كانتا فى إطار وضع الترتيبات الكفيلة بتمكين جماعة الإخوان، الأول وصل أنقرة ٢٧ أغسطس بدعوة من رئيس البرلمان التركى، حتى تبدو الزيارة بروتوكولية، لكنه التقى الرئيس أردوغان فى إسطنبول، ومولود جاويش أوغلو وزير الخارجية بمقر الوزارة فى أنقرة.. وباشاغا غادر طرابلس إلى أنقرة دون إحاطة السراج ٢٨ أغسطس، حيث قابل خلوصى أكار وزير الدفاع التركى.. سرية ترتيب الزيارتين ومستوى الاتصالات السياسية خلالهما، أكدت ما تردد بشأن التخطيط لانقلاب منظم فى طرابلس لحساب الإخوان وميليشيات مصراتة الموالين لتركيا وقطر.
تركيا تعتمد فى تطلعها لاحتلال ليبيا على الليبيين من أصول تركية، أردوغان ادعى أنهم مليون، لكن مصادر موضوعية تقدرهم بنحو ٥٪ من إجمالى سكان البلاد البالغ ٧ ملايين نسمة، يعود أصلهم إلى العهد العثمانى الذى دام ما يزيد على ثلاثة قرون ونصف القرن «١٥٥١- ١٩١٢»، وخلال عقدى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى تدفق نحو ١٢٠ ألف عامل تركى إلى ليبيا، تعايشوا واندمجوا وحصلوا على الجنسية.. حماية التركمان كان الشعار الذى رفعته تركيا دائمًا لتبرير تدخلاتها العسكرية فى سوريا والعراق، ودعم ونجدة «أتراك ليبيا» كان أحد مبررات تدخلها فى الغرب الليبى.. وطبيعى أن تهتم بالقيادات التى تتولى مناصب مؤثرة، مثل وزير الداخلية فتحى باشاغا، صلاح بادى قائد «لواء الصمود» أكبر كتائب مصراتة، مختار الجحاوى قائد ميليشيا «طقوة» بمصراتة، عبدالرءوف كاره قائد «قوة الردع» السلفية الجهادية التابعة لداخلية الوفاق، ومحمد صوان قائد حزب العدالة والبناء الذراع السياسية لإخوان ليبيا.
باشاغا تعامل مع الموقف بقوة وثقة، فهو كادر سياسى عسكرى، كان طيارًا بسلاح الجو حتى استقال ١٩٩٣، ثم انشق وأصبح الناطق باسم ميليشيات المجلس العسكرى لمصراتة ٢٠١١.. قوته لا ترجع فقط لرهانه على تركيا، ولكن لتبعيته أيضًا لأمريكا وقطر وبريطانيا.. فقد سبق أن دعا واشنطن لإقامة قاعدة عسكرية فى طرابلس لمواجهة النفوذ الروسى، مما يفسر تأكيد السفارة الأمريكية فى ليبيا بأنها تقدر «شراكتها الوثيقة» مع السراج وباشاغا.. وهو يراهن على علاقته بقطر، حيث اتفق معها على فتح باب التدريب لأفراد الأمن والشرطة فى الكليات والأكاديميات وبعض التخصصات الأخرى فى الدوحة.. فضلًا عن أنه يرتبط بعلاقات خاصة مع المخابرات البريطانية.
صراع القادة والميليشيات فى العاصمة طرابلس بلور ظهور جبهتين، الأولى يقودها فتحى باشاغا وزير داخلية السراج، تنتمى فى معظمها إلى مصراتة، مسقط رأس باشاغا، وينتمى الباقى إلى طرابلس، لكنه يرتبط مصلحيًا بباشاغا.. الأخرى تابعة لأسامة الجويلى قائد المنطقة العسكرية الغربية الموالية لحكومة الوفاق، وهى تنتمى إلى طرابلس، وتدين بالولاء للسراج.. باشاغا استند للضغوط الدولية والأمريكية المطالبة بسرعة تفكيك الميليشيات المسلحة، وإنهاء سيطرتها على مؤسسات الدولة، خاصة أن داخلها مطلوبين وإرهابيين، كما تعلل بالفساد المالى واستغلال النفوذ والابتزاز والاعتداء على مؤسسات الدولة، فى وضع خطة لتفكيك ميليشيات طرابلس التى ينظر إليها على أنها «دواعش» واستبدالها بميليشيا مصراتة المحسوبة على «الإخوان».. تركيا قدرت الموقف، وقررت الرهان على باشاغا وميليشيات مصراتة، استنادًا إلى أنهم يمثلون الجناح الأقوى داخل الميليشيات، فضلًا عن ارتباطهم العقائدى.. الصراع فى طرابلس صراع سياسى جهوى بامتياز يفتح الباب على مصراعيه للتدخل الأجنبى.
دخول مصر على خط الأزمة، وإعلان «سرت- الجفرة» خطًا أحمر، وهما الهدف الرئيسى للتدخل التركى، أوقف تمددها، وأدى إلى حالة من اللاسلم واللاحرب، فجرت الصراعات بالمنطقة الغربية.. محاولة السراج التحرك نحو التسوية السياسية دون تنسيق مع أنقرة، دفعها للرهان على ميليشيات مصراتة والإخوان، باعتبارهما الأقرب لها، فشل محاولة الإطاحة بالسراج أدى إلى تزعزع الكيان المؤسسى للمجلس الرئاسى، فبعد انسحاب واستقالة على القطرانى وفتحى المجبرى وعمر الأسود وموسى الكونى، انحاز أحمد معيتيق لفتحى باشاغا، واحتشد خلفه الإخوان، وميليشيات مصراتة وبعض ميليشيات طرابلس ما صَعَّب على السراج إقالته، لتظل تفاعلات الانقسام والصراعات الداخلية قائمة خلال الفترة المقبلة، حتى وإن تم ترقيع العلاقات بين الأطراف بضغوط خارجية.. هذا الموقف قد يتيح الفرصة لجهود التسوية السياسية، وإن كان لا ينبغى التعويل على ذلك لتعارضه مع المصالح التركية.. مما يفرض اليقظة والحذر والتحسب لاحتمالات الحرب، التى قد يتم اللجوء إليها كوسيلة لإعادة توحيد الصفوف بالغرب الليبى.
وعلى الجانب الآخر فإنه على حكومة البرلمان الليبى أن تستغل الفرصة لحشد القبائل خلف فكرة التحرر من الاستعمار التركى، والتخلص من الميليشيات، لاستعادة مؤسسات الدولة الليبية الموحدة.. وذلك ينبهنا إلى ضرورة التحرك العاجل لمعالجة بعض الأزمات، وأبرزها ما عبر عنه بيان المجلس الاجتماعى لقبيلة القذاذفة، من مطالبة الجيش الوطنى بإطلاق سراح جميع المعتقلين من أبناء سرت، ومنع الاقتراب من التجمعات السكانية للقبيلة، وعدم التعرض للمظاهرات والاحتجاجات فيها، تحذير البيان من أنه فى حالة عدم الاستجابة لمطالب القبيلة، ستؤول الأمور إلى ما لا يحمد عقباه، يعكس درجة عالية من الاحتقان، تفسر دعوتهم لانسحاب أبناء القبيلة من الجيش الوطنى، والتهديد بالدخول فى مواجهة صريحة معه.. عندما بدأ التدخل التركى، دعت قبائل سرت الجيش لدخول المدينة دون حرب، تضامنًا معه فى المواجهة الوطنية للمستعمر الجديد.. موقف وطنى محترم، يفرض المراجعة وتصحيح أى أخطاء أو تجاوزات، حفاظًا على تضامن وطنى يكفل استمرار زخم المواجهة مع الأتراك والمرتزقة والميليشيات