رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفساد وسنينه «2»




أشرنا، فى المقال السابق، إلى بعض النماذج لحالات صارخة من فساد بعض المتنفذين، التى طالت مؤسسات أساسية عديدة فى الدولة والمجتمع، لها احترامها وهيبتها، كمؤسسة التعليم ومؤسسة القضاء، ومؤسسات المال والاقتصاد، وغيرها. ومصدر الخطورة فى هذا الأمر أن ممارسة هذه الصروح وظائفها، بالكفاءة الواجبة، لا يتحقق إلا بتوافر شروط الحيدة والنزاهة واستهداف الصالح العام لا المصالح الشخصية، كما أن تسلُّل عناصر فاسدة إليها، يؤثر على استقرار المجتمع، ويضرب قيمه والضوابط الأخلاقية الحاكمة فيه، فى الصميم.
والحق أن ظاهرة الفساد فى مصر لا ترتبط باللحظة التاريخية الراهنة، فهى ظاهرة قديمة قدم التاريخ المصرى التليد، وقد حفظت لنا برديات عديدة شكاوى الحكماء المصريين من شيوع الفساد وما يتيحه من نهب لثروات البلاد، ويُراكمه من أسباب الغضب والاحتقان والانفجار الاجتماعى والسياسى.
كما أن هذه الظاهرة ليست وليدة البقعة الجغرافية التى نحيا فوقها، فبلاد كثيرة ضربها هذا «الطاعون الأسود» غيرنا، لكن الفرق بيننا وبين العديد من هذه الشعوب التى نهضت من كبوتها، ومنها «سنغافورة» على سبيل المثال، التى تحوَّلت من بقعة مُتخلفة فقيرة وبائسة، إلى واحدة من أكثر دول العالم نموًا وتقدمًا- أنهم وضعوا الضوابط المُنَظِّمة، والقوانين الرادعة التى تجتث جذور هذا السلوك الشائن، وغلَّظوا العقوبات الخاصة بممارساته، حتى صار ارتكاب جرائم الفساد أمرًا جللًا، يشبه القيام بعملية انتحارية دونها قطع الرءوس وإزهاق الأرواح، والتزموا بها التزامًا صارمًا لا تهاون فيه، كما شرح «لى كوان يو»، رئيس وزرائها الأسبق فى مُذكراته، ودون تردد أو مُحاباة، أو مماطلة، أو تكاسل.
كما أن هذه القوانين الرادعة لم تتعطل عند كبير أو عظيم، فقد طالت هذه القوانين رؤساء دول وحكومات، آخرهم «بنيامين نتنياهو»، رئيس الوزراء الإسرائيلى، الذى يُحَاكم الآن بسبب مجموعة من الاتهامات، وسيواجه عقوبات رادعة حال ثبوتها، وإقرار استغلال منصبه القيادى لتحقيق مغانم شخصية.
وللفساد أسباب مُتعددة، على رأسها التحولات العنيفة فى التوجهات الاقتصادية والاجتماعية، بعد انتهاج سياسة «الانفتاح الاقتصادى»، وما صاحبها من بيع وحدات عديدة من مصانع ومؤسسات القطاع العام دون دراسة وشروط وضمانات مناسبة، والعبث بقيمتها الحقيقية، وما ترتب على ذلك من نمو فئات استفادت أيما استفادة من هذه الفرص، مكونة ثروات هائلة دون تعب أو جهد، الأمر الذى وجّه ضربات مؤثرة إلى منظومة القيم الاجتماعية الحاكمة، وفى مقدمتها قيم «العلم»، و«العمل»، و«الكد»، و«الكفاح»، و«نظافة اليد»، و«حرمة المال العام»... إلخ.
وساعد على ذلك اتساع الفوارق بين الطبقات الاجتماعية، إثر فورة سفر قطاع واسع من المصريين إلى بلاد النفط وعودتهم بما حملوه من أموال، وكذلك انتشار عادات المجتمع الاستهلاكى غير المنتج، وثورة الاتصالات التى وضعت صورة ما يحياه العالم على طرف الأصابع، وأذاع الرغبة فى تقليد أنماط حياة وسلوك شعوب الوفرة، دون توافر الظروف الموضوعية الكفيلة بتحقيق ذلك، كذلك فإن تداعى أركان منظومة الأسرة، وتراجع دور الوالدين فى تربية وتوجيه الأبناء، وغياب دور المدرسة والمُعلِّم والنادى والمسجد والكنيسة، وغيرها من المؤسسات الشبيهة خلق الأرضية المناسبة لانتشار «فكر» الفساد وتبريراته، وتسويغ ممارساته وقبول عوائده، مما يدفع البعض لاستحلال المال العام، ويؤدى إلى شيوع الإحساس بأنه مال بلا صاحب يسهل العبث به، والاستيلاء على مقوماته.
كما ساعد على ذلك تدهور أوضاع التعليم، وتفشى الأميّة، وتراجع دور الثقافة وهزال ميزانياتها وضعف أجهزتها، وجمود الهيئات الدينية، وغياب الرسالة الاجتماعية الإيجابية التى تلتزم بها وسائل الإعلام وتؤثر عبرها فى توجيه الرأى العام، وما شابه من أسباب، فى غياب الروادع الأخلاقية التى تمنع الانزلاق إلى مستنقع الفساد دون مقاومة وصد.
وهكذا.. وصلنا إلى الوضع الذى باتت فيه ظاهرة الفساد ظاهرة عامة، ومُتَغوِّلة، ومظاهرها القبيحة تصدم أنظارنا أينما توجهنا، وتُحمِّل الدولة والمواطن تكاليف فادحة، وتحتاج إلى جهود هائلة لاجتثاث آثارها الفوضوية المدمرة، كما بات استمرار هذه الظاهرة دون مواجهة صارمة، سببًا أول لنشر الإحساس بغياب العدالة، ومُفاقمة أسباب الاحتقان، ومضاعفة دواعى الغضب والانفجار.
لقد سبق للكاتب المعروف الراحل «أنيس منصور» أن أشار إلى أن «اللصوص فى مصر ليسوا أفرادًا ولا عصابات، وإنما مؤسسات يحميها القانون»، (المصرى اليوم، ٢ مايو ٢٠٠٦)، وتساءل الأستاذ «فاروق جويدة»: «هل نحيا بالفعل فى مجتمع لم يعد يؤمن بشىء اسمه الحلال؟!» (الأهرام، ٢٩ يوليو ٢٠١٨)، وحين تصل الأمور إلى هذا الوضع، فهذا معناه أن جرس الإنذار يدق بشدّة، والأمر يحتاج بالفعل إلى وقفة جدية لإنقاذ البلاد.