رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى انتقال كاهن تقى.. سفير من السماء


مجد الوطن يكمن فيما ينجبه من أبطال شجعان، ومجد الجامعة يكمن فيما تنجبه من علماء أفاضل، ومجد الكنيسة يكمن فيما تنجبه من قديسين مشغولين بحياة السماء. ومن هنا يفتخر الوطن وتفتخر الجامعة وتفتخر الكنيسة بأبنائها. ونحن هنا فى الإسكندرية- على مستوى الكنيسة- نفتخر بما قدمته كنيسة الشهيد مار جرجس بسبورتنج من أبطال إيمان حقيقى وأبناء قديسين، بسبب كهنتها الأتقياء، وعلى رأسهم الأب بيشوى كامل إسحق «١٩٢٤- ١٩٧٩»، مؤسس مدرسة «الخدمة الواعية»، ومعه شريكاه فى الخدمة الأب تادرس يعقوب ملطى- أطال الرب فى عمره- والأب لوقا سيداروس «١٩٤٠- ٢٠٢٠»، مؤسس مدرسة «رائحة المسيح الذكية فى حياة أبرار معاصرين».
فى صباح الأربعاء ٢٦ أغسطس الماضى تنيح الأب المبارك القمص لوقا سيداروس، كاهن كنيسة الشهيد مار جرجس بسبورتنج الإسكندرية، وكنيسة الشهيد أبى سيفين والقديس الأنبا أبرآم بمنطقة تورانس بولاية كاليفورنيا بأمريكا، عن عمر تجاوز ٨٠ سنة، قضى منها أكثر من ٥٣ سنة فى خدمة بيت الرب بكل تقوى وقداسة حقيقية.
وُلد باسم كمال خلف سيداروس فى ٣ مايو ١٩٤٠، وخدم بكنيسة الأنبا أنطونيوس بشبرا. حصل على بكالوريوس العلوم- رياضيات تطبيقية- جامعة عين شمس فى عام ١٩٦٤، وتم تكليفه للعمل معيدًا بقسم العلوم الطبيعية «حاليًا قسم الرياضيات والفيزياء الهندسية» بكلية الهندسة- جامعة الإسكندرية، حيث قام بتدريس مادة «الميكانيكا النظرية». وفى كلية الهندسة تعرف على المهندس مكرم إسكندر نقولا المعيد بقسم الهندسة الميكانيكية «فيما بعد الأنبا بيشوى مطران دمياط وكفرالشيخ ودير القديسة دميانة». وفى الإسكندرية ارتبطت نفسه بالخدمة الواعية التى كان يقوم بها الأب بيشوى كامل إسحق بكنيسة الشهيد مار جرجس بسبورتنج. وأتذكر أنه بينما كنت فى الثانوية العامة بمدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية، كان لنا صديق بالفصل له شقيق بكلية الهندسة. وفى ذات يوم قال لنا إن طلاب كلية الهندسة سوف يتوجهون لدير القديس مينا بمريوط لأن أحد المعيدين بكلية الهندسة سوف تتم رسامته كاهنًا على كنيسة الشهيد مار جرجس بسبورتنج بيد البابا كيرلس السادس، وبالفعل تمت سيامته كاهنًا فى يوم الجمعة ١٧ مارس ١٩٦٧.
قضى فترة الأربعين يومًا- طبقًا لتقاليد الكنيسة بدير مارمينا بمريوط- ثم خرج واستكمل تلك الفترة بالمقر البابوى بالإسكندرية، لأن ذلك المقر التاريخى- الذى تم هدمه فيما بعد برغبة من أعضاء مجلس ملى الإسكندرية!!- كان فى الأصل ديرًا يقيم به رهبان لحراسة رأس القديس مرقس الموجود بالكنيسة المرقسية بالإسكندرية، ومن هنا كان الآباء البطاركة الواعون يختارون وكلاء البطريركية بالإسكندرية من بين الآباء الرهبان. وهو نفس النظام المُتبع فى الدير الذى يجاور كاتدرائية سان ماركو بفينيسيا، حيث يقيم به رهبان حتى الآن لحراسة جسد القديس مرقس الموجود بداخل الكاتدرائية. بعد أن أكمل القس لوقا سيداروس فترة الأربعين يومًا خرج للخدمة بكنيسة مار جرجس بسبورتنج فى خدمة نارية جدًا، مستندًا إلى قوة الروح التى عمل فيها مع الأبوين الأب بيشوى كامل والأب تادرس يعقوب. تميزت عظات الأب لوقا سيداروس بالبساطة فى الكلام مع وضوح الهدف، كما أنه كان مدققًا جدًا فى القوانين والتقاليد الكنسية. ثم التفت إلى أمر هام جدًا كان يشغل فكره، أن كثيرًا من أبناء الكنيسة اعتقدوا أن القداسة فى الكنيسة منحصرة فقط على رجال الدين من بطاركة وأساقفة ورهبان وكهنة، فأراد أن يصحح تلك المفاهيم، وأن القداسة تسكن فى الشخص الذى يحيا بحق فى الوصية الإنجيلية، فبدأ فى إصدار مجموعة من الكتيبات العملية جدًا التى تحوى سير أشخاص يحيون بيننا ولهم عائلات ولهم حياة تقوى وورع. وقدم هذه القصص فى أسلوب شيق ونحن جميعًا فى الإسكندرية نعرف تلك العائلات، وأطلق على هذه الكتب اسم «رائحة المسيح الذكية فى حياة أبرار معاصرين». ارتبطت حياة الأب لوقا سيداروس بالبابا كيرلس السادس الذى كان يرى فيه الابن المحب والشُجاع فى قول الحق، وأبيه الروحى الأب بيشوى كامل. ومن الأمور التى أذكرها للأب لوقا سيداروس أنه فى فترة خلو الكرسى بعد نياحة البابا كيرلس السادس كان يصلى فى الكنيسة، قائلًا: «أقم لنا راعيًا راهبًا صالحًا»، إذ أنه كان ضد ترشح الأساقفة بجميع أنواعهم- طبقًا لقوانين الكنيسة. أيضًا حدث فى أواخر الثمانينيات أنه تمت رسامة بعض الكهنة فى الإسكندرية، وتوجهوا لقضاء فترة الأربعين يومًا بدير الأنبا بيشوى بوادى النطرون. كان أحد هؤلاء الكهنة مهندسًا ناجحًا جدًا فى هيئة التليفونات بالإسكندرية. فى أثناء فترة الأربعين يومًا، حدثت مشكلة- لا ذنب له فيها- فاضطر لأن يغادر الدير ويعود إلى عمله بهيئة التليفونات!! فى ذلك الوقت كان بالإسكندرية أحد الأساقفة يعمل نائبًا بابويًا، وطلب إلى أن هذا المهندس يعود مرة أخرى للكهنوت استعدادًا لمحاكمته!! فما كان من الأب لوقا سيداروس- بشجاعة معهودة- إلا أن توجه رأسًا للبابا شنودة، وقال له: «عودة المهندس للكهنوت ومحاكمته ليس من الأبوة فى شىء، والأفضل أن يعود إلى الكهنوت مع تغيير اسمه الكهنوتى لينسى تلك الفترة، وأيضًا يتم نقله إلى كنيسة أخرى غير التى سيم عليها، ثم يستكمل فترة الأربعين يومًا فى أى دير من الأديرة». وحيث كان الرأى حكيمًا جدًا، وافق البابا شنودة على كل كلمة، وهو حاليًا كاهن ناجح جدًا ويخدم فى إحدى كنائس شرق الإسكندرية. كانت تربطنى بالأب لوقا سيداروس صداقة ومودة، فكثيرًا ما كنا نجتمع عنده بمنزله المبارك بمنطقة كليوباترا بالإسكندرية، أو بكنيسة مارجرجس بسبورتنج. وكانت الأحاديث بيننا تتطرق إلى بدايات الخدمة بكنيسة مار جرجس بسبورتنج وإلى خدمة البابا كيرلس السادس، حيث كنت أسرد عليه الكثير من ذكرياتى الغزيرة مع البابا كيرلس السادس.
طالته قرارات التحفظ الصادرة من الرئيس أنور السادات فى سبتمبر ١٩٨١، وكان ضمن المجموعة التى تم اعتقالها ظلمًا بسجن المرج. وبعد خروجه من التحفظ توجه للخدمة بكنيسة البابا كيرلس عمود الدين بمنطقة كليوباترا بالإسكندرية. حيث خدم بكنيسة مار مرقس فى لوس أنجلوس بأمريكا. ثم بعد ذلك توجه للخدمة بمنطقة تورانس. عرفه مرض السرطان فى الشهور الأخيرة، لكنه واصل حتى آخر نفس الوعظ والتعليم والرعاية. كان يعتز ببنوته الأمينة للأب بيشوى كامل كاهن كنيسة الشهيد مار جرجس بسبورتنج فى الخدمة. فى الشهر الأخير من حياته على الأرض لم يكن يقوى على السير أو الكلام أو الأكل، لكن كانت عيناه مثبتتين على أيقونتين أمامه، هما أيقونة البابا كيرلس السادس وأيقونة الأب بيشوى كامل. وعندما جاءت ساعة انتقاله همس ببعض كلمات الفرح بشفتيه، وترك أرض الشقاء والتعب ليستوطن إلى الأبد فى الفردوس، حيث الملائكة والقديسون. نستودعك بكل الفرح ونثق بأنك تشارك كل أحبائنا فى السماء فى حياة التهليل والفرح والصلاة من أجلنا جميعًا، من أجل الوطن ومن أجل الكنيسة ومن أجل كل أولادك.