رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبى فى العمل.. وأمى فى السماء


فى عام 2020 صدرت عن "دار أشجار للنشر والتوزيع" بالإمارات العربية المتحدة، رواية إنسانية رائعة للأديبة والروائية المتميزة الأستاذة "أميمة عزالدين" بعنوان: "أبى فى العمل وأمى فى السماء"، وعلى الرغم أن الرواية قد كُتبت خصيصًا للأطفال، إلا أنها أبكتنى كثيرًا، وما زلتُ من وقت لآخر أعاود قراءتها، وتتملكنى الدموع الغزيرة من فيض الروح الإنسانية العالية التى تتحلى بها الرواية.. الرواية تستحق جائزة "نوبل" فى أدب الأطفال.. الرواية تقول:
"نور" فتاة رقيقة بيضاء، مثل زهور الياسمين، وعيناها حزينتان رغم أن الابتسامة تزّين شفتيها الكرزيتين دائمًا.

مازالت "نور" تعد الأرقام على أصابعها، فهى لم تتعدَ السابعة من عمرها بعد!.. تعيش "نور" مع جدتها الطيبة التى تحضّر لها فطورًا شهيًا، من بيضتين مسلوقتين، وشريحة من الخبز الطرى، وكوب لبن بدون سكر. وقبل ذهابها للمدرسة تطبع الجدة على خدها قبلة كبيرة وتعطيها المصروف.
كل يوم، فى طريقها إلى المدرسة، تُلقى "نور" التحيات على بائع الكعك، وبائع الخضار، وصاحبة المكتبة الأستاذة "لطيفة"، فيبادلونها التحيات والابتسامات.. تهمس لها "لطيفة": (يا "نور" كم تُشبهين أمك!).. تبتسم "نور"، وتلمع فى عينيها دمعة صغيرة حزينة، تُخرج "نور" صورة أمها من جيبها، تتأمل وجهها، وتهز رأسها وتتساءل: (هل أشبه أمى فعلاً؟!! يا ليت!).

فى طريقها تشاهد "نور" أمًا تمسك بيد طفلها، أمًا تشترى الحلوى وتضعها فى حقيبة فتاة فى مثل عمرها، أمًا تطبع على جبين طفلة قُبلة، تتنفس "نور" كمية كبيرة من الهواء، ثم تُكمل طريقها نحو المدرسة.

فى المدرسة، تتحدث صديقاتها عن أمهاتهن.. أم صديقتها "ليلى" صنعت قالب حلوى شهية جدًا، أم صديقتها "ريم" خاطت لها فستانًا رائعًا، أم صديقتها "عائشة" تذاكر لها كل الدروس.

اليوم نسيت "نور"، إحضار كتاب المطالعة فوبختها المُعلمة حتى بكت. لم تخبر أحدًا أن أمها فى السماء، لأنها تشعر بوجودها. فهى تزورها دائماً فى أحلامها، وتربت على كتفها، وتعطيها الكعك المحشو بالفستق واللوز.. تكرر الأمر، وتنسى "نور"، عمل بعض الواجبات، إنها تشعر بالوحدة.

تعود "نور"، إلى البيت، فى المساء، تضع "نور"، رأسها فى حضن جدتها.. جدة "نور" طيبة جدًا، هى تمشط شعرها، وتحكى لها الكثير من الحكايات، لكن "نور" لديها حكاية مختلفة تماماً، فهى مُعاقَبة معظم اليوم فى المدرسة، لا أحد يعرف حكايتها سوى صديقتها "زينب".. "زينب" فتاة طيبة وشُجاعة، ذهبت بنفسها إلى المُعلمة وأخبرتها بأن "نور" تعيش مع الجدة بعد رحيل أمها.. قالت المُعلمة: سوف أساعد "نور"، سأذاكر لها كل ما فاتها من دروس، بينما أنتِ لا تتركيها أبداً يا "زينب".

تقول "نور" لجدتها: "جدتى احكى لى عن أمى. أين هى؟ لماذا تركتنى ورحلت؟ كل الأطفال لديها أمهات. أريد أن أخبرها أننى أحبها وأشتاق إليها كثيرًا"، تبتسم الجدة.. تأخذ نفسًا عميقًا وتقول: "أمك يا (نور) كانت رائعة، لا تأكل من طعام قبل أن توزع حصة على جيرانها، تخيط الثياب وتوزعها على المحتاجين. وكانت تحبك جدًا". "وماذا حصل لها؟" تسأل "نور"، جدتها: "فى يوم من الأيام أصابها مرض مؤلم جدًا، فاختار الله أن يأخذها إلى السماء، على جناح ملاك لا نراه نحن".

تلمع عينا "نور" بشدة، تجلس وتهتف بصوت مرتجف: "إذًا أمى الآن فى السماء! هى ترانى وتبتسم لى".. تقول الجدة: "بالتأكيد.. وهى تحب أن تراكِ متفوقة ورائعة دائمًا، ولا تحب أن تحزنى أبدًا". 

وفى تلك اللحظة، وصل والد "نور" من العمل، يبدو متعبًا جدًا.. ركضت "نور" نحوه، وحضنته، وقالت: "أبى، رغم أن ماما فى السماء، وأنت فى العمل، فأننى سأكون الأفضل، وسأبتسم دائماً، فماما ترانى!"، حمل الأب ابنته، ووقفا فى الشرفة، يتأملان السماء.

تمر الأيام وتغيب "نور" عن المدرسة، تجلس فى الشرفة، وتتطلع إلى السماء، السماء بعيدة، وجدتها أخبرتها بأن أمها تعيش فى السماء، وهى تريد أن تسافر إليها.. تأتى الجدة وتضمها إلى صدرها، وتنظر هى الأخرى إلى السماء،
تفكر "نور" فى طريقة لتطير إلى السماء، ليس لها جناحان مثل العصافير التى تحلق بالقرب من الحديقة، وليست لديها مركبة فضاء مثل عالِم الفضاء الذى شاهدته فى التلفاز منذ أيام، ظلت تفكر طويلًا.. فلم تجد سوى كراستها الكبيرة وأقلامها الملونة لترسم وجه "ماما" مبتسمًا، يطل عليها من السماء، محاطًا بالسحب البيضاء.. "نور" التى تردد دائماً "أبى فى العمل وأمى فى السماء" لم تعد حزينة، لأن "بابا" صار يصطحبها معه إلى العمل فى أيام إجازتها المدرسية، ثم يتنزهان معًا فى حديقة الحيوانات، لم تعد "نور" تنسى كتاب المطالعة، وحينما يسألها أحدهم عن "ماما و بابا" تقول: "أبى فى العمل وأمى فى قلبى".

انتهت الرواية الرائعة فى كل شىء، بما تحمله من روح إنسانية صادقة، ومعانٍ نبيلة نحن فى أشد الاحتياج لزرعها فى نفوس الأطفال والكبار أيضًا، لقد تفوقت الكاتبة الرائعة على نفسها، ورفعت عيوننا إلى السماء حيث يسكن جميع أحبائنا الأعزاء، وفى أثناء عرضى للرواية بكيت مرة أخرى، إذ تذكرت قصة حدثت فى عام 1963، وكنت فى السنة الثالثة الإعدادية، وفى يوم من الأيام لم يحضر صديق لنا للمدرسة، وعلمنا أن والدته قد رحلت.. تأثرت جدًا من تلك الواقعة، وبالأخص أننا كنا نقترب من الاحتفال بعيد الأم فى 21 مارس، وأخذت أفكر جديًا فى صديقى هذا– الذى كان يسكن بالقرب من مسكنى– وكيف سيقضى فترة الاحتفال بعيد الأم؟، فاقتربت منه أكثر فأكثر حتى أخفف من أحزانه وآلامه، فالمشاعر الإنسانية لا تتجزأ، وتظل فى أعماق الإنسان ولا تمحوها السنين.. فلتكن "السماء" هى وجهة نظرنا.