رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفساد وسنينه «1»


يستحق الخبر الذى نشرته جريدة «الأهرام»، فى عدد يوم ٢٣ أغسطس الماضى، على الصفحة «١٦» اهتمامًا كبيرًا، من كل المهمومين والمعنيين بأمر هذا الوطن، وبمستقبل الأجيال الجديدة التى سيؤول إليها أمره فى المستقبل المنظور، ذلك أنه يتعلق بواقعة مُشينة، تضرب فى مقتل أى محاولة للإصلاح والتطوير، وتُشيع مناخًا بالغ الإيذاء للعمل والاستثمار والنمو الاقتصادى، وتهز الثقة فى نزاهة العملية الاقتصادية والبنكية، بل وفى استقرار الوطن وأمنه، فى وقت البلاد أحوج ما تكون إلى كل هذه المُستهدفات جميعًا!
يقول متن الخبر: إن محكمة جنايات عابدين «قضت بالسجن المؤبد على رجل أعمال ومديرة فرع أحد البنوك، لاتهامهما بالاستيلاء على مليار و٣٥٠ مليون جنيه، «نعم ١٣٥٠ مليون جنيه بالتمام والكمال يا سادة!»، وإلزامهما مُتضامنين برد قيمة مساوية لذات المبلغ للبنك، وعزل المُتهمة من وظيفتها، وإلزامهما بالمصروفات الجنائية، وانقضاء الدعوى لمتهمين آخرين لوفاتهما»!
هذه الواقعة، وهى بالمناسبة، على ضخامة المبلغ المُستولى عليه بكل المقاييس، لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة، تعكس التعريف العلمى للفساد، باعتباره: «إساءة استخدام السلطة لتحقيق مآرب نفعية مادية، فى غياب المؤسسة السياسية بالمعنى المُعاصر للكلمة، مع ضعف فاعلية رقابة المجتمع المدنى، ناهيك عن أنه تجاوز صارخ للقوانين، وانتهاك لمنظومة القيم والمعايير الأخلاقية»، «د. ناصر عبدالناصر: ظاهرة الفساد: مُقاربة سوسيولوجية اقتصادية، كتاب (المدى)، دمشق ٢٠٠٢، ص: ٨».
وقد هالنى، أن أُطالع، وأنا أراجع الأرشيف الصحفى الخاص بمسألة «الفساد»، ما سبق ونشرته صحيفة «المصرى اليوم»، بتاريخ ٢٦ أكتوبر عام ٢٠١٧، أى منذ نحو ثلاث سنوات لا غير، من أن «جامعة بنها»، والكلام على لسان الدكتور «السيد القاضى»، رئيس الجامعة آنذاك، قد أحالت ثلاثة آلاف موظف وأستاذ للتحقيق خلال ١٤ شهرًا «!»، من إجمالى عدد العاملين بالجامعة البالغ عددهم ١٢ ألفًا، أى ٢٥٪ من مجموع العاملين بهذه المؤسسة التعليمية التربوية المهمة، وهى نسبة مُريعة، «بينهم عُمداء وأعضاء هيئة تدريس، وموظفون، وقيادات، بعضهم تم فصله نهائيًا من العمل، وبعضهم مسجون، ومنهم مُحالون للنيابتين العامة والإدارية، ومجالس التأديب، وتمت الإطاحة بعدد من رؤساء الأقسام»، لهذا السبب.
وفى الفترة ذاتها، «يوم ١٧ أكتوبر ٢٠١٧»، نشرت «البوابة نيوز» تفاصيل واقعة اختلاس مليار دولار هذه المرّة، لا مليار جنيه، بواسطة المدير المالى والعضو المُنتدب، ومسئول آخر بإحدى شركات البترول «ولا يفرق هنا أن تكون شركة مملوكة للدولة أو شركة خاصة!»، وقد اعترف المُتهمان بأنهما اختلقا شركة وهمية لتهريب الأموال المُختلسة من خلالها، إلى حسابات سرية ببنوك أجنبية ليس بينها وبين مصر اتفاقية تبادل مُتهمين، حتى لا تتم مصادرة الأموال.
وقد كتب الصحفى والإعلامى الراحل، الدكتور «عمرو عبدالسميع»، بتاريخ ٣٠ سبتمبر ٢٠١٨، فى عموده اليومى بجريدة الأهرام، تحت عنوان دال: «لقمة القاضى»، عن تأييد القضاء الحكم الصادر ضد رئيس محكمة الجنايات السابق بالزقازيق «صابر غلّاب»، ليصبح نهائيًا، لمدة عشر سنوات، والتهمة تقاضى «مُقَدَّم رشوة ٣٠٠ ألف جنيه، مقابل تخفيف حُكم الإعدام على أحد المتهمين، على أن يتقاضى باقى الأتعاب، وقيمته مليون جنيه، بعد تنفيذ تلك المهمة»، والأدهى أن التحريات أثبتت، كما يقول كاتب المقال: «أن القاضى يحصل على رشاوى منذ عام ١٩٩٩ لأعمال مثيلة، وأن حصيلة ودائعه فى البنوك ٩١٧ مليون جنيه، يعنى حوالى مليار جنيه كامل».
والإيجابى فى هذه الظاهرة أن الأجهزة الرقابية والقضائية والإدارية، لم تتهاون مع أى قضية من هذه القضايا، حال اكتشافها، فهى تُحيلها للتحقيق على الفور، وتتخذ فيها أقصى العقوبات التى ينص عليها القانون، لكن هذا الأمر لا يُخفف من وقع الكارثة، حين نكتشف من الأمثلة الأربعة المذكورة، وهناك المئات، إن لم يكن الآلاف من الأمثلة البارزة الأخرى التى تطول قطاعات أخرى مهمة من المجتمع، أن الفساد يحاول اختراق ركائز المجتمع الرئيسة، كالمؤسسة التعليمية والقضائية والمؤسسات المالية والاقتصادية، وغيرها من المؤسسات التى تبنى الأمم عليها حضارتها ومجدها.
لكن ما يمنح الأمل فى إمكانية النجاح فى مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة، أن الطائفة الفاسدة تُقابلها عناصر شامخة وقفت وتقف ضد الفساد بشتى أشكاله، فى هذه المجالات وغيرها، ورأينا مواطنين ومواطنات من كل الفئات والطبقات، رفضوا الرشوة، وبعضهم كان فى مسيس الحاجة لبضعة مئات قليلة إضافية من الجنيهات، تساعده على مواجهة أعباء الحياة.
وبهؤلاء يزهو مُجتمعنا، ويرفع رأسه، وصمد ويصمد لكل المؤامرات والمخططات التى تُحاك ضده، ولا تتوقف أبدًا.