رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا كتب الله على نفسه الرحمة ولم يكتب على نفسه الانتقام؟ «1»


من أسماء الله الحسنى، اسم الله «الرحيم»، وهو ما يسميه أهل اللغة صيغة المبالغة، وهو عطف يقتضى إحسانًا على المخلوق بما يسعده ويُصلحه.. وهناك فرق بين اسم الله «الرحمن»، واسم الله «الرحيم» يوضحه العلماء بقولهم: الرحمن ذو الرحمة العامة والشاملة لكل ما هو مخلوق فى هذا الكون: «قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ...» «الأنبياء: ٤٢»، لكن الرحيم رحمة خاصة للمؤمنين «...وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا» «الأحزاب: ٤٣»، وأهل الجنة بعد أن يدخلوها، يُقال لهم: «سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ» «يس: ٥٨».
التوبة من الله رحمة خاصة؛ لأنها عودة إلى الله تبارك وتعالى، لذلك تجد كثيرًا ما يتكرر فى القرآن الكريم «... إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «التوبة: ١٠٤».. أن تأكل وتشرب وتتمتع بحياتك هذه رحمة من الله عامة، وأن تعبد الله فى رمضان هذه رحمة خاصة من الله.
إذن هناك رحمتان، رحمة عامة، ورحمة خاصة: انظر إلى هذه الآية: «...وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ...» هذه الآية جمعت بين الرحمن «وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىءٍ» رحمة عامة.. وبين الرحيم «فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» رحمة خاصة.
هذه الرحمة ظهرت مع الكون منذ بداية خلقه، ومع كل المخلوقات وحتى النهاية، فالله تعالى يوم خلق السماوات والأرض كتب كتابًا فوق العرش «إن رحمتى سبقت غضبى»، فإن صفة الرحمة هى الأصل، سبحانه لا يكون إلا رحيمًا، ورحمته من لوازم ذاته كعلمه وقدرته وسمعه وبصره وإحسانه فيستحيل أن يكون غير ذلك، فهو دائمًا رحيم وليس دائمًا غاضبًا، ويقول ابن القيم: لكن الله يقول: «...وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىءٍ...» « الأعراف: ١٥٦»، ويقول: «... كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ...» «الأنعام: ١٢» ولم يكتب على نفسه الغضب.. وهذه رسالة مهمة: لا للتشدد والعنف.
وسع كل شىء رحمةً وعلمًا، ولم يسع كل شىء غضبًا وانتقامًا؛ لذلك الرحمة كانت أحب إليه من العذاب والعفو أحب إليه من الانتقام.. يقول تعالى: «وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى» «طه: ١٢٩».. لزامًا هو وقوع العذاب.. لكن ما هى هذه الكلمة؟ إن رحمتى سبقت غضبى.. لولا هذه الكلمة لكن لزامًا عقوبة لكل من أخطأ، لكن لم يحدث، لأنه كتب على نفسه الرحمة.
يقول النبى، صلى الله عليه وسلم، فى حديث آخر: «إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة كطِباق ما بين السماء والأرض، أنزل منها إلى الأرض رحمة واحدة فبها يتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه من هذه الرحمة- فكيف تكون إذن الـ٩٩ رحمة؟- فإذا كان يوم القيامة ضم الله هذه الرحمة إلى الـ٩٩ ثم بسطها على خلقه، فلا يهلك يومها إلا هالك، حتى إن إبليس ليتطاول أن تدركه رحمة الله عز وجل.
الله تعالى افتتح الكون بالرحمة، وافتتح خلق آدم بالرحمة، وافتتح القرآن بالرحمة، وافتتح كل سور القرآن بالرحمة.. ونَهى الخلق بالرحمة.. النبى، صلى الله عليه وسلم، يقول: «ليس منكم من أحد يدخل الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته».
سمى الله الجنة بالرحمة: «وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» «آل عمران: ١٠٧».. وفى الحديث: «أنتِ رحمتى أرحم بكِ من أشاء من عبادى».
وفى الأثر أن يأتى رجل يوم القيامة فيُقال: زنوا حسناته وسيئاته، فترجح سيئاته، فيقول: من يقرضنى حسنة واحدة؛ لأدخل بها الجنة؟ فيذهب لأمه وإخوانه وأصدقائه كلهم يقولون: نفسى نفسى، فيمر برجل عنده جبال من السيئات وحسنة واحدة فيقول له الرجل: خذ هذه الحسنة.. فيفرح.. فيقول الله تبارك وتعالى للذى أعطى الحسنة: لست أرحم به منى وأنا أرحم الراحمين، ادخلا كلاكما إلى الجنة.
سمَّى نفسه الرحيم وجسَّد لك رحمته فى صور عديدة.. حتى تعيش كأنك تراه فى كل ما حولك.. وجعل الأمّ فى حياة كل منا دالة لتدلك على رحمته سبحانه.. إذا أردت أن تتخيل رحمة الرحيم مجسدة أمامك فانظر إلى أمك.. يقول النبى، صلى الله عليه وسلم، هذا عندما رأى أمًّا تسير تحت الشمس الحارقة، وهى تحمل رضيعها وتحميه من الشمس، فيقول النبى، صلى الله عليه وسلم، لأصحابه: «أترون بهذه الأم تلقى بولدها إلى النار؟» قالوا: لا يا رسول الله، قال: «الله أرحم بكم من هذه الأم بولدها»، وكأن النبى، صلى الله عليه وسلم، يقول لك: إن نموذج تجسيد رحمة الله فى الدنيا هو أمك؛ فمن يوم أن أصبحت المرأة أمًّا أصبحت دالة على اسم الله الرحيم.