رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدور الأوروبى ومناورات التصعيد التركية بالمتوسط



الخط الأحمر الذى رسمته مصر لتركيا، من الجفرة إلى سرت، وامتداده فى عمق المتوسط، ممثلًا فى خط ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان، فرض عليها تجميد مخطط احتلال مدينة سرت ومنطقة الهلال النفطى وقاعدة الجفرة، بوابة الجنوب الليبى، كما أجبرها على نقل منطقة المسح السيزمى غير القانونى الذى تمارسه شرق المتوسط بعيدًا عن النقطة رقم «٨»، التى كانت قد اعتزمت العمل فيها، ثم أصبحت بموجب الترسيم داخل الحدود المصرية.. لكن المواجهة العسكرية بين تركيا واليونان وقبرص شرق المتوسط لا تزال فى أشد حالاتها.
اليونان رفعت حالة التأهب منذ ١٠ أغسطس، بمناسبة توجه سفينة الأبحاث التركية Oruç Reis، برفقة فرقاطات الحماية، نحو جنوب جزيرة «كاستلوريزو»، ردًا على توقيع اتفاق الترسيم اليونانى المصرى.. وفى تصعيد جديد للأزمة، أطلق خفر السواحل اليونانى النار على قارب تركى قرب جزيرة «رودس»، وأصاب راكبًا بجروح خطيرة، أعقبه حادث تصادم بين الفرقاطة اليونانية «ليمنوس» وفرقاطة من قوة حماية سفينة المسح التركية، فى المنطقة الواقعة بين قبرص وكريت، لامس خلاله قوس مقدمة الأولى مؤخرة الثانية، مما يعكس مدى اقترابهما، وحجم المخاطر المترتبة على ردود الأفعال غير المحسوبة.. فؤاد أقطاى، نائب أردوغان، أشهر التحدى «سفن بلادى ستبحر فى طريقها، بصرف النظر عن توقيع الاتفاق اليونانى المصرى»، وخلوصى أكار، وزير الدفاع هدد «سنتخذ كل التدابير اللازمة لحماية حقوقنا ومصالحنا شرق المتوسط»، وأردوغان حذر من أن أى هجوم على سفينة تنقيب تركية سيكون «ثمنه باهظًا».
أوروبا تدرك أن عدوانية السياسة التركية أضحت عبئًا ثقيلًا على استقرار المنطقة، هذه الرؤية لا تقتصر على دول الاتحاد الأوروبى، بل تمتد حتى إلى سويسرا المحايدة، التى توجه وزير خارجيتها إلى أنقرة حاملًا مبادرة وساطة.. التوظيف السياسى لقضية الهجرة، والمسوح السيزمية غير القانونية، واختراق حظر بيع الأسلحة إلى ليبيا، مبررات للتوتر والتباعد بين أنقرة وأوروبا.. أثينا دعت الاتحاد الأوروبى إلى عقد اجتماع طارئ لمعالجة الأزمة، قمة الاتحاد يُتوقع عقدها فى بروكسل، ووزراء الخارجية عقدوا اجتماعًا فى فيينا ١٤ أغسطس، اتفقوا فيه على التضامن مع اليونان وقبرص، وإعداد قائمة عقوبات مقترحة لمناقشتها تفصيلًا فى اجتماع مجلس الشئون الخارجية للاتحاد المقرر فى برلين ٢٨ أغسطس.. تركيا استبقته بالإعلان عن توسيع نطاق عمليات المسح، لتشمل جنوب غرب قبرص وجنوب شرق كريت.. أنقرة اختارت التصعيد كأداة ضغط، رغم أن ظروفها الاقتصادية بالغة الصعوبة، والمجازفة بدخول حرب، يمكن أن تؤدى بها إلى الانهيار.
فرنسا سبقت الموقف الأوروبى بخطوات واسعة؛ عسكريون فرنسيون زاروا ميناءى لارنكا وليماسول القبرصيين لتفقد منشآت استقبال قوة الدعم البحرى الفرنسية، التى بدأت بالفرقاطة «لافاييت».. ومقاتلتان «رافال» وطائرة شحن «C-130»، هبطت بقاعدة أندرياس باباندريو الجوية، تنفيذًا لاتفاقية الدفاع المشترك الموقعة بين الدولتين ٢٠١٧، التى تم تفعيلها أول أغسطس الجارى، تحت وقع الأزمة.. الـ«رافال» الفرنسية ظهرت أيضًا فى اليونان، والبحرية الفرنسية أجرت مناورات عسكرية مع نظيرتها اليونانية قبالة جزيرة «كريت» ١٣ أغسطس، ومن المتوقع أن يلتقى رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، على هامش قمة الاتحاد الأوروبى المقبلة، لبحث حصول اليونان على قرض بقيمة ٣٢ مليار يورو لشراء فرقاطتين فرنسيتين، وبحث إبرام اتفاق للمساعدة الدفاعية فى حال واجه أحد الطرفين تهديدًا عسكريًا من طرف ثالث.. فرنسا تستعد لمواجهة التمدد التركى بعد أن أصبح يهدد مصالحها مباشرة، فى مالى ودول الساحل والصحراء.

تركيا من آن لآخر تطلب الوساطة مع اليونان وجيرانها شرق المتوسط، وهو ما طلبه أردوغان من ميركل، كما طلبه وزير الخارجية التركى من نظيره الإسبانى، لكن تلك كلها مجرد مناورات سياسية خداعية لكسب الوقت، لأن تركيا تدرك أن معالجة النزاعات التركية اليونانية ترتبط مباشرة بتسوية المشكلة القبرصية، ونزاعات جزر بحر إيجة، ما يفرض احترام سيادة ووحدة الأراضى القبرصية، والقواعد التى قننتها اتفاقية أعالى البحار ١٩٨٢ بشأن ترسيم الحدود البحرية بين الدول، وكلها قضايا يتسم الموقف التركى تجاهها بالتشدد وانعدام المرونة، ناهيك عن ارتباطها بمعظم أزمات المنطقة، بدءًا من المشكلة السورية وانتهاءً بالغزو التركى لليبيا، مما يزيد الأمور تعقيدًا.
ويرتبط بنفس أسلوب المناورة ما كشف عنه أردوغان يوم ١٤ أغسطس عن لقاءات عقدها مسئولون أتراك من جهات سيادية مع نظرائهم من مصر واليونان، مؤكدًا أنهم سمعوا من الجانب المصرى أن هناك سوء تفاهم تنبغى إزالته!! وقد وجه وزير خارجيته ليتواصل مع نظيره السعودى لاتخاذ الخطوات اللازمة لتسوية القضايا العالقة أيضًا.. ويبدو أن تركيا لا تحسن قراءة المشهد، كما لا تجيد المناورة، لأنها فى أثناء حواراتها تلك مع مصر، ونظيرتها مع اليونان بوساطة ألمانية، كانت الاتصالات المصرية اليونانية فى أوجها، حتى تم توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين الدولتين، وهو الاتفاق الذى دعمته السعودية.. تركيا خسرت كثيرًا نتيجة فشل مناوراتها، وأصبح أى اندفاع يهدد بانهيار اقتصادها المتهاوى، وقد يطيح بحكم أردوغان.