رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر والبحر الأحمر



يشكل البحر الأحمر أهمية كبرى فى التاريخ والسياسة فى مصر، حيث انتبه الفراعنة منذ قديم الزمن إلى هذه الأهمية.
وتتصاعد أهمية البحر الأحمر بالنسبة إلى مصر مع ازدياد التواصل بين الشرق والغرب من خلال التجارة الدولية؛ إذ أصبح البحر الأحمر من أهم الطرق البحرية الدولية.
وسيشهد القرن الثامن عشر عودة الإلحاح الأوروبى على فتح البحر الأحمر أمام التجارة الدولية، وساعدت على ذلك بداية ضعف الدولة العثمانية، وظهور قوى أوروبية جديدة، لا سيما إنجلترا واهتماماتها الآسيوية، فضلًا عن فرنسا وروسيا. وفى تلك الأثناء سيصل على بك الكبير- الأمير المملوكى الشهير- إلى السيطرة على أوضاع الحكم فى مصر، وستحاول القوى الأوروبية عقد اتفاقيات مع هذا الأمير الطموح لإعادة فتح البحر الأحمر من جديد. لكن النهاية الدرامية لعلىّ بك الكبير ستوقف مؤقتًا هذا المشروع، لكن شهية الدول الأوروبية لالتهام البحر الأحمر لن تنقطع.
وتعتبر الحملة الفرنسية على مصر عام ١٧٩٨ حلقة من سلسلة الصراع الدولى على البحر الأحمر؛ إذ كان من أهداف الحملة قطع الطريق بين إنجلترا وكبرى مستعمراتها فى الشرق «الهند»، كما سيبرز من جديد المشروع القديم الجديد لربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط، هذا المشروع الذى سيعيد البحر الأحمر إلى الصدارة فى الاستراتيجية والصراع الدولى.
وستخرج الحملة الفرنسية من مصر، ويصل محمد على إلى الحكم، ويبدأ فى سياسة مصر الإقليمية، والمجال الحيوى لمصر. من هنا وفى ظروف عديدة ومختلفة يبدأ التوسع المصرى فى الحجاز وشبه جزيرة العرب، والسودان، وبلاد الشام، وبذلك أصبح محمد على يسيطر تقريبًا على هذا الشريان الملاحى الحيوى، البحر الأحمر، وسنلاحظ انزعاج القوى الكبرى، لا سيما إنجلترا أمام هذا التوسع، ومحاولة تطويقه. لهذا لم يكن غريبًا احتلال بريطانيا ميناء عدن فى اليمن عام ١٨٣٠ للسيطرة على جنوب البحر الأحمر، فضلًا عن بداية التوسع فى النفوذ البريطانى فى سواحل الخليج العربى.
كما يتصاعد بعد ذلك الصراع الفرنسى الإنجليزى على مصر وعلى طريق البحر الأحمر، وسيعبر هذا الصراع عن نفسه من خلال المشروع الفرنسى لحفر قناة السويس، والذى سيقابله فى نفس الوقت مشروع السكك الحديدية الإنجليزى لربط الإسكندرية- القاهرة- السويس للوصول إلى البحر الأحمر.
ويعتبر عام ١٨٦٩، عام افتتاح قناة السويس، تحولًا عالميًا مهمًا، وفى نفس الوقت تصاعد أهمية البحر الأحمر كأهم طريق ملاحى دولى، وازدياد الصراع الدولى على هذا الشريان الحيوى، لهذا لم يكن غريبًا إسراع بريطانيا فى احتلال مصر عام ١٨٨٢، ثم ضم السودان بعد ذلك، وبذلك أحكمت بريطانيا السيطرة على شمال البحر الأحمر «مصر والقناة»، وجنوبه «عدن».
ويتجلى الصراع الدولى على قناة السويس والبحر الأحمر، من خلال الحملة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى من فلسطين للاستيلاء على قناة السويس، وحرمان بريطانيا من التحكم فى الباب الشمالى للبحر الأحمر، وستصاحب ذلك إثارة بريطانيا القلاقل للدولة العثمانية فى الحجاز من خلال الثورة العربية بقيادة الشريف حسين.
وستدخل دول أخرى فى دائرة الصراع على البحر الأحمر، لا سيما إيطاليا وفرنسا، وسياسة السيطرة على منطقة القرن الإفريقى.
وسيؤدى ظهور إسرائيل منذ عام ١٩٤٨ إلى زيادة التعقيدات فى مسألة الصراع الدولى على البحر الأحمر، إذ ستصبح لها نافذة على هذا الممر المهم من خلال ميناء إيلات، وبالتالى ستظهر لإسرائيل سياسة إفريقية، تصل فى بعض الأحيان إلى منافسة الدور التاريخى لمصر فى عالم البحر الأحمر وإفريقيا.
وستدرك مصر ذلك جليًا، وسيزيد ذلك من التدخلات الدولية فى مسألة البحر الأحمر. ويعتبر إغلاق مصر خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية فى عام ١٩٦٧، من أهم الأمثلة على ذلك، وسيؤدى ذلك، بالإضافة إلى عوامل أخرى، إلى اندلاع حرب يونيو ١٩٦٧، والتوسع الإسرائيلى ووصوله إلى الضفة الشرقية لقناة السويس، فضلًا عن سيطرة إسرائيل على سواحل سيناء على البحر الأحمر.
كما ستعاود مصر بنجاح سياسة خنق شريان إسرائيل على البحر الأحمر، فى أثناء حرب أكتوبر ١٩٧٣، من خلال السيطرة على مضيق باب المندب فى جنوب البحر الأحمر.
على أى حال انتصرت مصر، وعادت سيناء إلى حضن الوطن من جديد، لكن سياسة إسرائيل فى البحر الأحمر وشرق إفريقيا لم تنقطع، وكان الهدف دائمًا تحجيم دور مصر الإقليمى، وخنق مصر جنوبًا، ثم ازدادت السياسة تبجحًا بالتدخل الإسرائيلى فى بلاد حوض النيل.
من هنا عاد السؤال من جديد حول انشغال مصر بعد حرب ١٩٧٣ عن دورها التاريخى وسياستها الثابتة تجاه البحر الأحمر وإفريقيا، وترك ذلك لقوى إقليمية أخرى، أو قوى عالمية، مثل أمريكا وحتى الصين.