رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

في جذور المحنة اللبنانية (2)


آفة الوضع اللبناني، وجوهر مُشكلاته يكمن فى الطائفية والنظام الطائفي الخبيث، الذى حرص الاستعمار الفرنسى، ومن قبله الاحتلال العثماني الممتد، علي تكريسهما، كوسيلة مُجربة، ومضمونة لتفتيت الأمة، والسيطرة علي مقدراتها، وإضعاف مناعتها.

وقد ترسَّخت قواعد هذا النظام، الذي استهدف- ظاهريًا- تقاسم السلطة بين الطوائف اللبنانية للحد من تنازعاتها والصراعات المحتدمة بينها، والتي برزت بشكلٍ مخيف في مذابح عام 1860 بين الموارنة والدروز، في عهد نظام "المتصرفية"، (1861ـ 1915)، حيث اعتُمد لكل طائفة منطقتها التي يديرها زعماء عشائرها، ولها رؤساؤها وقضاتها ومتصرفيها، ومع وقوع لبنان، تحت هيمنة الانتداب الفرنسى، (1920ـ 1943)، في أعقاب اتفاقية "سايكس- بيكو" لتقاسم دول المنطقة بين الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى، وأساسًا الفرنسية والبريطانية، تَكَرَّسَ الوضع الطائفي، مع ميول واضحة لصالح الطائفة المارونية من الفرنسيين، الذين ظاهروا الموارنة في مواجهة الأكثرية المُسلمة، وكركيزة للحد من نفوذ الدولة العثمانية، التي كانت المنطقة تخضع لسلطانها.

وبدلًا من أن يكون النظام الطائفي نظامًا مؤقتًا (بحسب نص المادة 95 من دستور عام 1926 اللبناني)، ينتهي حال الإجماع علي صياغة تحفظ وحدة الدولة، وتتبني قواعد العدل والمساواة في التعامل مع جميع بنيها، تحول النظام "العُرفي" للطائفية اللبنانية، بعد انتهاء الانتداب الفرنسي عام 1943، إلي نظامٍ مستمر، في ظل تقسيمة "الكوتا" الطائفية، التي استمرت حتى عام 1989، على أساس تقاسم السلطة ومؤسسات الدولة والحكم، بنسبة 7 للمسيحيين بمختلف طوائفهم، و6 للمسلمين بمختلف طوائفهم (تعدَّلت النسبة إلي المُناصفة في مؤتمر الطائف ذاك العام).

وقد ساعدت على إدامة هذا النظام المُعْوج، المصالح الهائلة التي تراكمت لصالح وجهاء الطوائف وزعمائها، والذين أصبح من صالحهم، لضمان تدفقها، استمرار هذه الوضعية الشاذة، مهما كانت الويلات التي يُسببها هذا النظام للبلد ككل، وقد أغفلوا في سعيهم لتعظيم النفوذ الطائفي والعشائرى، ومع تكريس "الإقطاع السياسة" وتوارث السلطة، بذل الجهود المخلصة لبناء دولة متطورة، واكتفوا بإدارة اقتصاد خدمي ريعي تابع، قاصر عن أن يلبي حاجات الدولة الحديثة، ويكفل استقرار مكوناتها وحماية مقوماتها، ما دام يحفظ لهم النفوذ والثروة!

وفي ظل هذه الوضعية الهشّة، كان من الطبيعي أن يتحالف الموارنة مع العدو الإسرائيلي، لدى تفجُّر الحرب الأهلية عام 1975 في مواجهة بني جلدته ومواطنيه، وزادت الشقّة الطائفية مع تكون "حزب الله"، كمدافع عن مصالح الطائفة الشيعية، وارتفاع أسهمه بتعاظم دوره في مواجهة العدوان الصهيوني المُتكرر علي لبنان واحتلاله لجانب من الأراضي اللبنانية، وتصدّي الحزب له، ثم بالمشاركة في دعم النظام السوري في مواجهة الهجمة الداعشية، المدعومة من الرجعيات الخليجية والولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها كتركيا وغيرها.

ومع احتدام الصراع الأمريكي- الإيراني، والتحريض الصهيوني المُتَكَرِّر لوضع حد لنمو عناصر القوة العسكرية الإيرانية، ومنعها بكل السبل من امتلاك عنان القدرة النووية، ولو السلمية، أُضيفت عناصر جديدة لتوتر الأوضاع اللبنانية، التي تحولت إلي ساحة حرب- بالنيابة- كما أرادتها إسرائيل، بينها وبين إيران، وهو الأمر الذي جعلها، أي الساحة اللبنانية، مُهيئة للانفجار في أي لحظة.

انفجر مرفأ بيروت قبل إعلان نتيجة التحقيق (الدولي) في واقعة اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، "رفيق الحريرى"، (السنِّي)، المحسوب علي المملكة العربية السعودية، وكان من المتوقَّع- في سياق التطورات المُحتدمة الراهنة- أن توجّه أصابع الاتهام إلي "حزب الله"، (الشيعي)، المحسوب علي الدولة الإيرانية، وبذلك انتقل الصراع المُحتدم في المنطقة، والموجّه أمريكيًا، بين الدول الخليجية التي تري في تعاظم النفوذ الإقليمي لإيران تهديدًا ليس وحسب لمصالحها العُليا، وإنما لوجودها المادي والمعنوي، وبين إيران التي تمت شيطنتها، وتصويرها في هيئة الحوت الذي يستعد لالتهام الدول النفطية الخليجية، إلي لبنان المُنقسم ـ في الأصل ـ علي ذاته، لكي تُزيد الطين بله، والأزمة تَعَقُّـدًا!

كانت "الطائفية" أُس بلاء لبنان، وسر ضعفه العضوى، فتحولت التعددية الحضارية في مكوناته، من منحة إلي محنة، ومن مصدرٍ للثراء والنماء، إلي سببٍ للتفتت والبلاء، وستستمر هذه الوضعية الخطرة قائمة، حتي يتحد الشعب اللبناني، بكل طوائفه، ضد نظام "الطوائف" و"المُحاصصة الطائفية"، ويتحرر من هيمنة زعماء الطوائف، الذين يتربعون علي عرشه المُتداعي الخَرِبْ.