رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إثيوبيا وهى تلعب بنيران القرن الإفريقى



بعد أيام من تسلم رئيس الوزراء الإثيوبى جائزة «نوبل» للسلام، خرج الرئيس الأمريكى فى جمع حاشد أثناء أحد لقاءاته، ليذكر بطريقته الخاصة التى اختلطت ما بين الزهو وتأكيد الحقائق، أن الأمر جاء فى إطار صفقة ما حين قال نصًا: «لقد عقدت صفقة، لقد أنقذت بلدًا، وسمعت أن رئيس تلك الدولة يحصل الآن على جائزة نوبل للسلام عن دوره فى إنقاذ بلاده، هل لى دور فى هذا؟ بالقطع نعم، ولكن هكذا تجرى الأمور عادة». حينها كان الرئيس الأمريكى، يشير إلى اتفاقية السلام التى جرى توقيعها بين إثيوبيا وإريتريا، بعد حرب حدودية دامية جرت بين البلدين فى الفترة من عام ١٩٩٨ وحتى عام ٢٠٠٠، أسفرت عن مقتل نحو «٨٠ ألف شخص» قبل أن يسود الجمود الكامل علاقتهما نحو ٢٠ عامًا.
إثيوبيا طالما صدعت رءوس جيرانها من البلدان الإفريقية، بالتنصل والانقلاب على حقبة الاستعمار واتفاقيات الاستعمار، رغم كونها من البلدان القليلة بالقارة التى استفادت كثيرًا من تلك الحقبة، فقد اتفقت إيطاليا وبريطانيا مع انتهاء تلك الحقبة على قيام الاتحاد الإثيوبى الإريترى، من خلال تقديم مشروع فيدرالى بدعم من الأمم المتحدة، هذا بالطبع كان سببًا فى تفجر غضب إريتريا التى كانت تسعى لنيل استقلالها، أما الإمبراطور هيلا سيلاسى الإثيوبى حينها فقد رحب بالفكرة، وتجلى أن الهدف من القرار جاء لضمانة الاستحواذ على أكبر قدر من المصالح للدولة الإثيوبية فى القرن الإفريقى، حيث تواجه معضلة عدم امتلاكها منافذ بحرية.
وعندما أعلن الشعب الإريترى عن احتجاجه وقام بمواجهات محدودة من أجل نيل استقلاله، اتخذها الإمبراطور الإثيوبى ذريعة وضم إليه إريتريا بشكل أحادى، ملغيًا النظام الفيدرالى من جانب واحد فى عام ١٩٦٢. استمرت بعد ذلك حرب لا هوادة فيها ثلاثة عقود، إلى أن انتصرت «الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا» وتمكنت من تحرير كامل أراضيها، وأُجرى استفتاء كبير على مصير إريتريا برعاية دولية فى أبريل ١٩٩٣، اختار فيه الناخبون الإريتريون الاستقلال لتعترف إثيوبيا أخيرًا فى ٣ مايو من العام نفسه، بسيادة إريتريا على كامل أراضيها واستقلالها.
اتفاق السلام الموقع بين إثيوبيا وإريتريا والذى حصل «أبى أحمد» بمقتضاه على جائزة «نوبل»، أثار فى البداية آمالًا عريضة، باعتبار أن هناك تغييرًا فى السلوك الإثيوبى قادمًا، على النحو الذى كانت حملات العلاقات العامة الدولية تحاول تصويره، إلا أن الواقع كشف وكذب تلك الآمال بعد أن تعثر تنفيذه لشهور طالت، حيث ظلت الأطماع الإثيوبية على حالها، وبقى الجمود وعدم القدرة على إدارة المشهد السياسى يكبلان أديس أبابا، ويفصحان عن وجهها الحقيقى بعيدًا عن الأصباغ الاحتفالية. إريتريا كانت تضع شروطًا منطقية لأى سلام مع إثيوبيا، أولها تطبيق إثيوبيا قرار ترسيم الحدود الصادر فى أبريل ٢٠٠٢، وإعادة منطقة «بادمى» المتنازع عليها والتى آلت السيادة عليها لإريتريا، وسحب القوات الإثيوبية من الأراضى الإريترية المحتلة، هذه الشروط لم تكن تقبل التفاوض باعتبار الوجود العسكرى الإثيوبى بعد القرارات التى صدرت لصالح إريتريا، بمثابة احتلال وانتهاك للسيادة.
الاختلاف العميق فى الرؤى وتوجهات أديس أبابا فضلًا عن التحولات المتسارعة فى الداخل الإثيوبى، أدخلت اتفاق السلام إلى نفق مظلم ونزعت عنه الوهج والحماسة اللذين صاحبا توقيعه، فعليًا انقطعت الزيارات المتبادلة لمسئولى البلدين منذ فترة، فى الوقت الذى تأكد لدى أسمرة أن إثيوبيا تحكمها ثلاث حكومات وأن «أبى أحمد» لا يسيطر على زمام الأمور فيها.
رئيس الوزراء الإثيوبى الذى اختال ما بين الدول الإفريقية، وآخرها دولة السودان فى تقديم نفسه كقيادة إفريقية تمثل جيلًا جديدًا، صانعًا للسلام وراعيًا لاتفاقيات الانتقال السياسى، كان فى ذات الوقت يتجاهل ويتعامى عن مشاكله الداخلية التى التفت حول عنقه سريعًا، وصرفته عن التوجه الدولى، ونزعته من مربع الأضواء الإعلامية الذى بدأه بزخم احتفالى عال وغير واقعى، فالصراعات بين الإثنيات الإثيوبية الكبرى «الأورومو» و«الأمهرة» و«الصومال» و«التيجراى» بدأت تدخل مرحلة جديدة يصعب التحكم بها، وهذا أهم وأخطر مظاهر ضعف الحكومة الإثيوبية.
ربما وكعادة نظام الحكم فى إثيوبيا، بعد تسببه فى حالة «الموت السريرى» لاتفاق السلام مع الجارة إريتريا، ورغبته فى الهروب مما يحدث بالداخل المضطرب، خرج رئيس الوزراء بلا مناسبة ولا «مبرر معقول» سوى الكشف عن طموح متهور، وهو يعرض «خارطة» تضمنت إريتريا، ووصفها بأنها تقع ضمن الثروات التى تمتلكها إثيوبيا أثناء الحديث عن الثروة البحرية مما دفع «الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا» وهى الحزب الحاكم فى أسمرة، لأن تصدر بيانًا شديد اللهجة يستنكر هذا العرض الإثيوبى المتجاوز، معتبرة إياه تعديًا على استقلال الشعب الإريترى، الذى دفع فيه دماء وطنية غالية ليتمكن من انتزاعه بموجب الاستفتاء الشعبى لخيار الاستقلال فى مايو ١٩٩٣، وحينها تم إعلان استقلال إريتريا برًا وجوًا وبحرًا لتنال بعده العضوية الكاملة كدولة ذات سيادة بالمجتمع الدولى. الجبهة بالطبع أصابها انزعاج كبير، وحمل بيانها خشية من إعادة إثيوبيا إنتاج التجربة الاستعمارية التى لم تبرح أذهان الشعب الإريترى، الذى قدم فى سبيل نيل استقلاله آلاف الشهداء والجرحى من أبناء الشعب، ولذلك أرفق بيانه بمطالبة صريحة للجانب الإثيوبى، بأن يخرج بتفسير واضح من الحكومة الرسمية لتصحح موقفها أمام كل من الداخل الإثيوبى والإريترى، فضلًا عن الرأى العام العالمى غير المدرك خطورة مثل تلك التصريحات والرؤى الإثيوبية، التى يوجد ما يشير إلى إمكانية حدوثها على الأرض وفى طيات الأحداث ما بين الجارتين.
لعب حقيقى بالنار تمضى أديس أبابا قدمًا إليه، فالقرن الإفريقى الذى أنهك لعقود وما زال مثقلًا بالعديد من الاضطرابات ومهددات الإرهاب والصراعات المسلحة، التى شاركت وتشارك للأسف إثيوبيا فى الكثير من عوامل صناعته- لا يحتمل المزيد من التوترات التى تفضى إليها مثل تلك الرؤى، حيث تظل مواقف وتفاصيل من هذا النوع بقادرة على كشف الوجه الحقيقى لنظام الحكم فى إثيوبيا، الذى يراهن طوال الوقت على أن معادلة إثارة الفتن والصراعات من حوله، هى الضمانة الوحيدة لبقائه متماسكًا وتحفظ وضعه الداخلى من التشظى أو الانهيار.