رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«إنه الدم».. رواية نوال السعداوى من وحى ثورة يناير 2011


نوال السعداوى منذ الخمسينيات من القرن العشرين دفعت ثمنًا باهظًا من حياتها وسمعتها الأدبية، بسبب ثورتها وتمردها الدائم على الكثير من القيم الموروثة السلبية، والتى لا تزال تتحكم فى حياة أغلب النساء والفقراء حتى يومنا هذا.
اشتغلت نوال السعداوى بالجراحة والطب، وأصبح القلم فى يدها مثل المشرط تستأصل الجزء المريض من الجسد دون أن يطرف لها جفن، كما تستأصل بؤر الفساد والعادات الضارة فى المجتمع والأسرة.
تحكى أحداث روايتها بعنوان «إنه الدم» الصادرة عن دار المطبوعات فى بيروت بعد عدة سنوات من ثورة ٢٠١١ عن شخصيات من مختلف الفئات والطبقات والاتجاهات الفكرية جمعتهم خيمة واحدة فى ميدان التحرير بالقاهرة خلال الثورة المصرية فى شهر يناير.
لا تسير الرواية من البداية إلى النهاية فى خط مستقيم، بل تتقطع وتنفصل الأحداث والشخصيات بعضها عن بعض، إلا أنها تتجمع تحت الخيمة لتنقطع، يلعب الدم المراق على الأسفلت دورًا بارزًا فى الرواية سواء كان دم الشباب فوق الأسفلت فى ميدان التحرير أثناء الثورة المصرية أو الثورات الأخرى فى نيويورك ولندن وبلاد العالم، الدم هو الدم، فوق أسفلت الشوارع وداخل البيوت، دم الخادمة العذراء فوق الملاءة الحريرية لسيدها البيه، والدم فى عيادة الطبيب أثناء عملية الإجهاض، ودم الشغالة القاتلة زوجها ودم الكاتبة الثائرة ضد النظام، تنزفان معًا فوق الأسفلت أثناء الولادة داخل السجن.
تجسد الرواية تفاصيل صغيرة قليلة لا تلحظها العيون لكنها كاشفة عن حقائق مخيفة وأسرار دفينة، لا تطلع عليها إلا عين الأمن الساهرة فى الدولة وعين الله لا تنام فى السماء.
تذوب رقابة الأرض فى رقابة السماء كما تذوب سلطة الله فى سلطة الرئيس، ينمو الشارب واللحية البيضاء للرئيس الجديد بعد سقوط الرئيس القديم ذى الشعر الأسود المصبوغ والذقن المحلوق.
ترصد نوال السعداوى أخطر الحوادث بعين عفوية لم تفقد طفولتها ونظرتها الكلية للكون، مما يكسب روايتها تناسقًا وتماسكًا ووضوحًا رغم كل شىء.
لا تتبع رواية نوال السعداوى أى مدرسة أدبية أو فلسفية، تنتهج طريقًا مستقلًا خاصًا بها وحدها، لا تسير وراء الموضة تحت اسم الحداثة وما بعد الحداثة، تأتى أحيانًا عباراتها علمية تقريرية دقيقة مثل تقرير طبى من المشرحة، وأحيانًا أخرى شاعرية خيالية شبه مستحيلة أو غريبة، إلا أن الواقع قد يكون أحيانًا أغرب من الخيال.
النبض الحقيقى للرواية خافت متواضع، لا تستعرض نوال السعداوى عضلاتها الأدبية أو اللغوية، لا تريد تسجيل اسمها فى سجل الكاتبات، سردها يخصها كأنما تكتب لنفسها، سردها متقطع أحيانًا كأنما سينقطع وقد يشتد ويتواصل كأنما لن يتوقف.
العدل هو الخيط الحريرى لفلسفة نوال السعداوى فى روايتها، لا تفصل بين العدل فى الدولة والحزب السياسى عن العدل فى الفراش والبيت، لا فاصل بين العام والخاص أو الذات والآخر، أو الله والإنسان، الكل يذوب فى الكل، ليست عندها حياة سرية، لا يشغلها الخلود ودخول الجنة ولا الحصول على جوائز الدولة أو مديح النقاد، التحدى هو ما يميز أبطال الرواية وبطلاتها، المقاومة اللانهائية حتى آخر قطرة دم.
جائزتها الوحيدها هى «هنا والآن» فى هذه اللحظة الحاضرة وهى تكتب ما يدور فى عقلها الواعى واللاواعى، يتحول اللاوعى إلى وعى وهى تكتب تكتشف نفسها وتدرك الواقع والحقيقة أكثر وأكثر.
الواقع هو منبع الفن فى رواية نوال السعداوى، واقع الدم واللحم والألم والنزف المستمر، واقع القبح والخيانة والكذب والفضيحة.
ترفع الرواية الغطاء عن القيح فى الجرح، وتكشف الحجاب عن الكذب والندالة تحت النبل والنبالة، تغوص الرواية فى طين الأزقة والقبور والفقر وطوابير البشر المطحونة أمام حنفية ماء فى العشوائيات، نشم رائحة العرق والتعب والحزن.
تكشف الرواية عن نفاق الصحافة والكتابة والنخبة المميزة والتجارة بالمثاليات فى السياسة والدين والجنس والحب والزواج، تنتهك الستائر والمحرمات وتقتحم المجهول وما وراء السحب، تكشف عن الخرافات بتلقائية الأطفال، لم تستطع المدارس والمقدسات الأكاديمية أو الدينية تقليم أظافرها الأدبية أو تحجيم شطحاتها أو شططها كما يقول عنها نقادها التقليديون.
ربما لأنها فقدت الخوف من النار، أصبحت قادرة على التحديق فى الموت أو فى عين عزرائيل أو ربما عين الشيطان.
لم تنجح وسائل القمع فى قمع بطلاتها المتمردات، فهن يخترن دائمًا الطريق الصعب مع أن هناك طرقًا سهلة للحصول على المال والمنصب والشرف، لكن الشرف عندهن هو مقاومة الزيف حتى النهاية.
وهى تردد دائمًا هذه المقولة: «احترمت نفسى حين خيّرتها بين السهل والصعب فاختارت الصعب».
تتوزع مكونات المؤلفة على الشخصيات فى الرواية، سواء الكاتبة العنيدة العاشقة لنفسها وفنها، أو الخادمة الفقيرة المطحونة المتحدية للقضاء والقدر، لا فاصل بين المؤلفة وبطلاتها، لا فاصل فى الرواية بين الشكل والمضمون، اللفظ والمعنى كيان واحد، تقص الروائية ما تشاء من الحدث كمنْ يركب بساط الريح دون فقدان الحدث الواحد أو ما يسمونه الخيط المشدود أو الموسيقى الخفية بين السطور وما هو غير مكتوب قد يظهر المسكوت عنه لحظة الصمت، وقد تتخفى الحقيقة وراء الكلمات الزاعقة.
روايتها مغايرة للمألوف قطيعتها للموروث ومفارقتها حتى لأعمالها السابقة أو الأجزاء الماضية من الرواية ذاتها تعود فيها إلى الماضى بتفاصيل حية كأنها الحاضر، قطع ووصل دون فقدان وحدة العمل، تعبر بالكلمة والصورة والصوت والحركة وإن نظرة عابرة خاطفة لا تلحظها عين، لا تفصل بين الرواية والسيرة الذاتية، كل شىء ينبع من الذات ويعود إلى الذات بعد الذوبان فى الآخر.
لا تكتب نوال السعداوى أدبًا نسائيًا أو رجاليًا، لا تفصل الجسد عن العقل ولا النساء عن الرجال، المأساة وإن اختلفت واحدة.
يلعب الحوار دورًا بارزًا فى الرواية، قد يكون حوارًا قصيرًا فى نصف دقيقة بين اثنين لكنه يكشف حياتهما الخفية منذ ألف عام.
يحرك الحوار الأحداث وينقل الرواية من زمن إلى زمن ومن مكان إلى مكان، وقد يلغى الزمان والمكان.
ربما تنتهى من القراءة بسرعة أو على مهل، لكن حين ننتهى منها لا تنتهى، تبقى منها نظرة خاطفة أو كلمة عابرة غير مكتملة لكنها تبقى